عرفات الله... حين تتهجد الأرواح وتتنزل الرحمات | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 


عرفات الله... حين تتهجد الأرواح وتتنزل الرحمات | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
عرفات الله... حين تتهجد الأرواح وتتنزل الرحمات | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 



عرفات.. ذلك الوادي المبارك الذي تتهادى فيه الأرواح كما لو أنها عرفت خالقها لأول مرة، فاطمأنت، وسكنت، وألقت عن كاهلها أوزار الأيام وثقل الأعوام. إنه الموعد السنوي الذي تنتظره القلوب العطشى إلى الغفران، فتُساق إليه خاشعة راجية، باكية دامعة، وكلها أمل أن تكتب في زمرة المعتوقين من النار.

في عرفات، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين عالم وجاهل، الكل يرتدي البياض، والكل يرفع يديه، والكل يهمس: "يا ربّ".. كم هي عظيمة تلك اللحظة التي يجتمع فيها الناس من كل فجّ عميق، يلهجون بدعاء واحد: "اللهم اغفر لنا واعتق رقابنا".

عرفات ليس مجرد مكان، بل هو حالة روحية، ومقام من مقامات التوبة والرجوع، هو الموعد الأعظم بين العبد وربه، حيث يباهي الله بعباده ملائكته، ويُشهِدهم على غفرانه.

في عرفات، تعرف الله أكثر.. ترى رحمته تتنزل مع كل غروب، وتسمع نداء السماء: "قد غفرت لهم" ، عرفات الله... ذلك اليوم المشهود الذي تتجلّى فيه معاني الرحمة والكرم والإحسان الإلهي في أبهى صورها، ويشرق فيه نور العبودية الخالصة والتسليم الصادق للحقّ سبحانه، من الحاج وغير الحاج ، ففي هذا اليوم، تمتدّ رحمة الله لتَسَع كل شيء، وتطرق أبواب القلوب التي أقبلت عليه برجاء ومهابة، مهما تباعدت الأجساد أو اختلفت الأماكن.

فهذا حاجٌّ قد بلغ عرفات الله مع إشراقة الشمس، يقف فيها حتى غروبها، يتنقل بين صلاةٍ خاشعة، وذكرٍ عطر، ودعاءٍ ملؤه الرجاء، وتسبيحٍ وتهليلٍ وتكبير، واستغفارٍ يفيض من قلبٍ أثقله عبء الذنوب ، نعم إنه يوم العودة إلى ربّ العباد، يوم تُسفك فيه دموع التوبة على ذنوب تراكمت، منها ما هو صغير كالهَمسة، ومنها ما هو كبير كالجبل، لكنها جميعًا تهوي أمام باب الرحمن إذا ما طرقه العبد بقلب منكسر ونفسٍ صادقة ، إن رحمة الرحمن وفيض كرمه يتنزّلان في هذا اليوم تنزّلًا يليق بجلاله، فينزل سبحانه إلى السماء الدنيا، ويُلقي على عباده نظرة رضا لا تُرد، فيباهي بهم ملائكته الذين قالوا يومًا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟"، فيُريهم الحقُّ أن هؤلاء العباد – وإن عصَوا، وإن زلّوا – فإن في قلوبهم موضعًا للتوبة، وحنينًا للرجوع، وأنه سبحانه يعلم ما لا يعلمون ، فهم ليسوا مفطورين على الطاعة كملائكته، بل جبلوا على الضعف والنقص، ومع ذلك فتح لهم ربهم بابًا واسعًا من الرحمة، ليعودوا إليه بقلوب منكسرة، ونفوس متطهّرة، فيُكتب لهم أن يُبعثوا من عرفات طاهرين أنقياء كما ولدتهم أمهاتهم… لا يحملون من الذنوب شيئًا، إلا ما كان من حقوق العباد.

بل إن الله تعالى، بلطفه ورحمته، دلّ عباده على مواطن الخير ومظان الرحمة في هذا اليوم المشهود، الذي لا يُقضى ولا يُعوَّض، فـمن فاته عرفات الله فقد فاته الحج، إذ هو ركنه الأعظم، ويومه الأكبر، كما قال الحبيب المصطفى ﷺ: "الحج عرفة". هو يوم الحج الأكبر، ويوم التجلّي والعتق والقبول، وقد بيَّن لنا رسول الله ﷺ – وهو الذي لا ينطق عن الهوى – أفضل ما يُقال فيه، فقال: "خيرُ الدعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير."

فمن فاز في هذا اليوم العظيم، ونزل من عرفاته بقلب خاشع ولسان ذاكر، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وبدأ صفحة جديدة بيضاء، لا يكتب فيها إلا الرضا، ولا يُسطر فيها إلا القبول.

وهذا الإحسان الإلهي لا يقتصر على من وقف بعرفات بجسده وروحه، بل يمتدّ فيضه ليشمل سائر العباد في كل بقاع الأرض. فقد شرع الله تعالى صيام هذا اليوم العظيم لغير الحاج، وجعل فيه من الفضل ما لا يُقدَّر بثمن، إذ يكفّر ذنوب عامٍ مضى وعامٍ آتٍ، ما لم تكن من حقوق العباد.

ذلك لأن المظالم لا تُمحى إلا بردّ الحقوق أو عفو أصحابها، فـمن ظلم أخاه، أو أكل ماله، أو أهدر حقه، أو أساء إليه بأي صورة من صور الظلم، فلن يُجزئ عنه حج كل عام، ولا عمرة كل يوم، حتى يُعيد الحقوق أو ينال العفو ممن ظلمه.

فيا سعادة من طابت سريرته، وصفت نيّته، وخرج من يوم عرفة خفيفًا لا يحمل في قلبه حقدًا، ولا في رقبته مظلمة.

ولا يقتصر العمل الصالح في يوم عرفة لغير الحاج على الصيام فقط، بل هو يوم تتسع فيه أبواب الخير وتتنوع طرق القربات، فكل عبادة تُتقرب بها إلى الله تدخل في فضل هذا اليوم العظيم.

فمن دعاء واستغفار، وتسبيح وتهليل، وقراءة للقرآن، ومدارسة للعلم، وإصلاح ذات البين، وكثرة الخطى إلى المساجد، والدعوة إلى الله تعالى، والسعي على الأهل والولد، وعيادة المريض، وحسن العشرة، وأداء الواجبات… كلها من أعمال يوم عرفة التي لا تُحصى ولا تُعد.

فمن لم يُكتب له أن يقف بجسده في عرفات، فليكن له وقوف عند حدود الله الذي عرفه، وقفة صدق وتوبة وإصلاح، فذاك هو الوقوف الأعظم الذي لا يخيب معه الرجاء.




Share To: