«أليست نفسًا؟ " من رحمة النبي ﷺ إلى عدالة القاضي كابريو» | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
![]() |
«أليست نفسًا؟ " من رحمة النبي ﷺ إلى عدالة القاضي كابريو» | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
تعجب أصحاب النبي ﷺ حين رأوه يقوم لجنازة رجل يهودي، فبادرهم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة حاسمة أزالت دهشتهم: «أليست نفسًا؟ متفق عليه .
سبحان الله! ما أعظم رحمتك وأخلاقك يا رسول الله… لقد علّمتنا أن الإنسان مكرَّم في كل حال، بغض النظر عن دينه أو معتقده، لأنه بنيان الله الذي نفخ فيه من روحه. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾
[الإسراء: 70]
وهذا الموقف النبوي لم يكن حدثًا عابرًا، بل تجسيدًا حيًّا لعظمة الرسالة الأخلاقية والإنسانية التي جاء بها الإسلام، رسالة تفرض احترام الآخر والتعايش معه في سلم وأمان، ما دام يحمل في قلبه معاني الرحمة والقيم التي دعت إليها جميع الشرائع الإلهية، وفي مقدمتها شريعة الإسلام.
وهذه الرسالة الخالدة وجدت صداها حتى في واقعنا المعاصر، حيث لمستها في سلوك القاضي الأمريكي فرانك كابريو، صاحب البرنامج الشهير Caught in Providence، الذي كان ينظر في قضايا السير والمخالفات المرورية. كان يشدني دائمًا أسلوبه المليء بالرحمة وقراراته الحكيمة، فقد كان ميزان حكمه لا ينفك عن جانب الإنسانية، وخاصة إذا كان المدعى عليه يصطحب طفلاً معه. عندها يلين قلبه وتفيض كلماته بالشفقة، فتغدو قاعة المحكمة وكأنها بيت رحيم، لا مجرد قاعة للقانون.
فبروح الأبوة كان القاضي فرانك كابريو يتحاور مع الطفل المرافق لأبيه أو أمه، فيسأله مبتسمًا: هل ترى أن والدك أو والدتك مذنب حقًا وتجاوز إشارة المرور؟ وهو يعلم في قرارة نفسه أن الطفل لن يشهد على والديه بل لهما، وأن البراءة الطفولية لن تسمح له إلا بالدفاع عن أحب الناس إليه. بل ربما أوحى ذلك للقاضي الرحيم أن العين الصادقة التي ترى بعفوية الطفل أصدق أحيانًا من عين الكاميرا الجامدة التي صورت الواقعة. وهنا يغلب جانب الرحمة، فيعفو ويصفح ويخفف الحكم بروح مرحة وإنسانية لا يختلف على جمالها اثنان.
وهكذا، تتقاطع المواقف رغم تباعد الأزمنة والأمكنة؛ فرسول الله ﷺ حين قام لجنازة اليهودي وقال: «أليست نفسًا؟» كان يضع ميزانًا إنسانيًا خالدًا يجعل للرحمة مكان الصدارة في حياة البشر. وبعد قرون طويلة، نلمس صدى هذه الرحمة في سلوك قاضٍ أمريكي معاصر هو فرانك كابريو، الذي علّم الناس أن القانون بلا رحمة يتحول إلى قسوة، وأن العدل لا يكتمل إلا إذا كان للإنسان فيه نصيب من الشفقة والعفو.
إنها رسالة متجددة: أن الرحمة قيمة تتجاوز حدود العقيدة والجغرافيا، وتبقى صالحة لكل إنسان وفي كل زمان. وإذا كان نبي الرحمة ﷺ قد أرشدنا إلى أن نرى في كل إنسان "نفسًا" لها كرامتها، فإن كابريو أعاد التذكير عمليًا بأن الإنسانية أوسع من نصوص القانون، وأن العفو واللين قد يصنعان من المخالف إنسانًا أفضل، كما يصنعان من المجتمع بيتًا أكثر أمانًا وسلامًا.
Post A Comment: