نرجسية زوجٍ بسيف الطلاق وتهديد البنيان الأسري – رؤية شرعية | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 


نرجسية زوجٍ بسيف الطلاق وتهديد البنيان الأسري – رؤية شرعية | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
نرجسية زوجٍ بسيف الطلاق وتهديد البنيان الأسري – رؤية شرعية | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 


صورة المسألة:

زوج وقع بينه وبين زوجته نزاع بسبب اعتراضها على إفشاء أسرار حياتهما الزوجية لأهله، فاشتد غضبه وهدّدها بالطلاق، ثم قال في حال انفعال: "عليَّ الطلاق منكِ ما انتِ داخلة عند أمك تاني"، وقال بعد ذلك في حال غضب شديد: "هي كده طالق مني بالثلاثة". كما أنه أخرجها من بيت الزوجية ومنع عنها النفقة، رغم وجود طفلٍ بينهما ، وقد ذكرت الزوجة أنه كان قد أوقع طلاقًا سابقًا ثم كفّر عنه.فما حكم الألفاظ التي تلفّظ بها الزوج؟ وهل تُعد طلاقًا واقعًا؟ وما حكم منعه زوجته من أهلها وإخراجها من بيتها؟

نقول وبالله التوفيق : 

أولًا: إن الحياة الزوجية عمادها المعاشرة بالمعروف، ودوامها قائم على أداء كل طرف ما أوجب الله عليه، ما لم يمنع من ذلك مانع خارج عن إرادته. وقد أمر الله تعالى الرجال بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) سورة النساء: الآية 19.  ومع الأمر الإلهي بالمعاشرة بالمعروف، بيّن الله تعالى منهجًا ربانيًا لعلاج ما يعتري الأسرة من تصدعات، يبدأ بالوعظ، ثم الهجر في المضجع فقط، ثم اللوم برفق لا إيلامًا، ثم التحكيم من الأهلين إن لم تُجدِ الوسائل السابقة، فإن فشل الإصلاح كان الطلاق المشروع طلقةً واحدة في طهر لم يجامعها فيه، كما قال الله تعالى  ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾ (سورة الطلاق: الآية 1) ، كما قال تعالى: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ) سورة النساء: الآية 130.ولو سلك الرجال هذا المسلك ما وقع الطلاق إلا نادرًا.

ثانيًا: نهى الله تعالى الرجل أن يُمارس أي نوع من أنواع الإرهاب النفسي أو التهديد بالطلاق في كل خلاف، لأن ذلك يناقض مقصود الشريعة في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، ويهدم أسس المودة والرحمة التي بُني عليها عقد الزواج. فلا تستقيم حياة زوجية تُظَلَّل بسيف الطلاق المرفوع دائمًا. وقد قال الله تعالى تحذيرًا من الإضرار بالزوجة أو اتخاذ آيات الطلاق وسيلة ضغطٍ أو أداة تهديد بقوله : ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ﴾ سورة البقرة: الآية 231. 

وفي واقعة السؤال، أخطأ الزوج – عفا الله عنه – في ثلاثة أمور :

الأمر الأول : تعليق الطلاق على منع الزوجة من التواصل مع أهلها ، كان الأولى أن يكتفي باليمين إن اضطر إليه، وله بعد الصلح أن يُكفّر عنه ، أما إن كان يعتقد أن بعض أهلها يُفسدون عليها علاقتها به أو يتدخلون تدخلًا يهدد استقرار الأسرة، فله أن يوجّه النصح بالحكمة والموعظة، ويطلب منها تنظيم العلاقة بما يحقق الصلة دون الضرر، لا أن يقطعها أو يمنعها منعًا كليًا، لأن صلة الرحم واجبة، وقطعها معصية، وقد قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) سورة محمد: الآية 22. فمنعها الكامل من أهلها ليس علاجًا، بل يزيد القطيعة ويؤجّج النزاع.

وفي المقابل، فإن الزوجة العاقلة تزن الأمور بميزان الحكمة، وتحافظ على أسرتها بكل ما أُوتيت من عقلٍ ورشدٍ وصبر، فلا تجعل صلة رحمها مدخلًا للخصومة، ولا تُقصي أهلها عن حياتها بالكلية، بل تُوازن بين حق الزوج وحق الرحم بما يرضي الله تعالى. 

الأمر الثاني  : إخراجها من بيت الزوجية ومعها طفلها، وفي ذلك مخالفة صريحة لقوله تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) سورة الطلاق: الآية 1 ، كما أن في منعه النفقة عنها إيذاءً لها ولطفلها، وتكليفًا لأهلها بما لا يجب عليهم شرعًا ولا قانونًا.

وإذا لم ينتبه الزوج إلى هذه الحقوق الشرعية، واستمر في منعها من النفقة أو من بيت الزوجية، أو في حرمان طفلها من حقه، فلها أن ترفع الأمر إلى القضاء الشرعي بطلب إثبات حقوقها وحقوق طفلها المالية والمعنوية، وكذلك بطلب تمكينها من مسكن الزوجية؛ لأن الشرع كفل للزوجة وولدها حق السكن والنفقة وهو من الحقوق الثابتة للمرأة ، ولم يجعل ذلك منةً من أحد.

الأمر الثالث : الثالث: نقل خصوصيات بيت الزوجية إلى أهله، وهو خطأ جسيم يهدد استقرار العلاقة ويُفقدها خصوصيتها، وقد نهى النبي ﷺ عن إفشاء أسرار البيوت وعدّ ذلك من خيانة الأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" رواه مسلم.

فالزواج ميثاق غليظ، يقوم على الستر والوفاء، ولا يجوز أن يكون أسرار البيت مشاعًا للأهل أو الأصدقاء، لأن في ذلك إفسادًا للزوجة وتشويهًا لصورة العلاقة التي أمر الله أن تُبنى على المودة والرحمة.

ثالثا : أما عن قوله: «هي كده طالق مني بالثلاثة»، فليس بلفظ صريح للطلاق، بل إخبار يحتمل الصدق والكذب، ولا يقع به طلاق إلا أن يقول لها: «أنتِ طالق» بنيةٍ ولفظٍ صريحين، ووفق الضوابط الشرعية.

رابعا : أما ما ذكرته الزوجة من أن زوجها كان قد أوقع الطلاق قبل ذلك ثم كفّر عنه، فبيان ذلك أن الطلاق في ذاته لا كفارة فيه؛ لأنه ليس يمينًا، وإنما هو حلٌّ للعقد، فلا يصح القول بأن أحدًا طلّق ثم كفّر عن الطلاق نفسه.

وإنما يكون ذلك في حالٍ واحدة، وهي أن يكون الزوج قد حلف بالطلاق ونوى به اليمين لا إيقاع الطلاق حقيقة، ثم حنث في يمينه، فكفّر عنه باعتباره يمينًا لا طلاقًا ، وفي هذه الحالة تُجزئه كفارة اليمين إذا أفتاه بذلك عالم موثوق أو مفتٍ معتمد، ولا يُعدّ ما صدر منه طلاقًا واقعًا، لأن المقصود لم يكن إنهاء العلاقة الزوجية، بل كان الحلف والتهديد، وهذا هو الظاهر من سياق الواقعة.وبناءً عليه، لم يثبت في الواقعة إلا طلقة واحدة سابقة، وهو ما أقرّت به الزوجة والزوج معًا.

والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




Share To: