حين تتحول الغيرة إلى جناية: قراءة شرعية في واقعة طبيبة الأسنان وزوجها | بقلم أ.د. روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
![]() |
| حين تتحول الغيرة إلى جناية: قراءة شرعية في واقعة طبيبة الأسنان وزوجها | بقلم أ.د. روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر قصصًا تثير الجدل بين الناس، تجمع بين الغرابة والطرافة، لكنها في جوهرها تكشف خللًا في الفهم الأخلاقي والديني عند كثيرين، ومن ذلك ما تداوله الناس مؤخرًا عن طبيبة أسنان قامت بتخدير زوجها وخلع أسنانه انتقامًا منه بعد أن ارتبط بامرأة أخرى، فاشتعلت التعليقات بين مؤيد للفعل وعدِّه ردًّا طبيعيًا على الخيانة، وبين مستنكرٍ رآه جريمة لا مبرر لها، وتباينت المواقف بين من يقيس بعاطفةٍ مجروحة ومن يرجع إلى ميزان الشرع والعقل، وإزاء هذا الجدل الذي جمع بين الدعابة والانفعال رأيت أن أتناول القضية بميزان الفقه والخلق مبينةً الحكم الشرعي في مثل هذا الفعل وما يترتب عليه من آثار في ميزان الله تعالى وفي نظام الحياة الزوجية التي جعلها الإسلام ميثاقًا غليظًا لا ساحة انتقام.
أولا : في حال وقوع مثل هذه الحادثة في مجتمعٍ مسلمٍ يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن الفعل الذي أقدمت عليه الزوجة بتخدير زوجها وخلع أسنانه يُعد جناية عمد موجبة للقصاص، لأن الشريعة جعلت للإنسان حرمةً لا يجوز المساس بها، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (سورة البقرة: 190)، وقال سبحانه: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (سورة المائدة: 45)، فدلت الآية على أن السن يقابل بالسن والجراح بالقصاص، فإذا أقدمت الزوجة عمدًا وعدوانًا على قلع أسنان زوجها بغير حق فقد أتلفت جزءًا من بدنه متعمدةً الإضرار به، والشرع في هذه الحال يُخيّر المجني عليه بين القصاص بالمثل إذا أمكن من غير تعدٍّ، أو أخذ الدية المقررة في السنة وهي خمسٌ من الإبل عن كل سن، لما رواه النسائي وأبو داود عن النبي ﷺ أنه قال: «في السن خمسٌ من الإبل» حديث صحيح، أو العفو ابتغاء وجه الله تعالى لقوله سبحانه: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (سورة الشورى: 40)، وعلى ذلك فهي آثمة شرعًا مرتكبة لكبيرة من كبائر الذنوب، لأن النبي ﷺ قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» متفق عليه.
ثانيا : أنها قد خالفت أمانة المهنة التي تستوجب الرفق والرحمة لا الغدر والانتقام، فخيانة الأمانة الطبية تجمع بين الإثم الشرعي والمساءلة القانونية، لأن الطبيب مؤتمن على أرواح الناس وأجسادهم، ومن خان الأمانة استحق العقوبة في الدنيا والآخرة. ولا يجوز للزوجة مهما اشتد ألمها أو تأكدت من خيانة زوجها أن تنصب نفسها قاضيًا وجلادًا، لأن الحكم بين الناس لا يكون بالهوى بل بما أنزل الله، وقد شرع الإسلام طرق الإصلاح والتحكيم قبل الطلاق، قال تعالى: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ (سورة النساء: 35)، فإن لم يُجد الإصلاح فالمخرج الشرعي هو الطلاق بإحسان لا الاعتداء والانتقام، لقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (سورة البقرة: 229)، وإن كان ما فعلته تحت تأثير الغضب أو الغيرة فذلك لا يرفع عنها المسؤولية، لأن الغضب لا يُبيح انتهاك الحرمات،
ثالثا : الحياة الزوجية في الإسلام ميثاق غليظ أساسه المودة والرحمة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (سورة الروم: 21)، فلا تُبنى بالانتقام ولا تُهدم بالإيذاء، وإنما بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، فالحكم في هذه الواقعة أن ما فعلته الزوجة جنايةٌ عمد محرمةٌ شرعًا ومعاقبٌ عليها قانونًا، وتعد خيانة للأمانة الطبية وإفسادًا للمودة الزوجية، ولا عذر فيها بغيرةٍ أو غضب، لأن الشريعة لا تُقر العدوان ولو في موضع الغيرة، وإنما تأمر بالصبر والاحتساب والرجوع إلى القضاء، فمن تجاوز حد الله فقد ظلم نفسه.
رابعا : إن صحّ أن الزوج قد خان زوجته أو ربط علاقة بغيرها، فإن فعله كذلك محرم شرعًا ومنافٍ للأمانة الزوجية التي عاهد الله عليها، قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19)، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ (الإسراء: 32)، فالخيانة الزوجية محرّمة من الطرفين، وهي قبل أن تَهدِم الثقة تُهدم بها المروءة وتضيع بها الأمانة، وقد قال النبي ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم» حديث حسن رواه الترمذي، فليس من الخلق الكريم أن يبدّل الرجل الوفاء بالغدر، ولا الأمانة بالخيانة، لكن مع ذلك فإن تقصيره لا يسوّغ للزوجة العدوان عليه، لأن الذنب لا يُزال بذنبٍ مثله، وإنما يُردّ إلى الشريعة والقانون . والله تعالى أعلى وأعلم


Post A Comment: