وظيفة القافية "الإيقاعية والبنائية" في الشعر العربي الحديث | بقلم / دكتور جمال فودة عضو الاتحاد الدولي للغة العربية كاتب وناقد وأكاديمي مصري
![]() |
وظيفة القافية "الإيقاعية والبنائية" في الشعر العربي الحديث | بقلم / دكتور جمال فودة عضو الاتحاد الدولي للغة العربية كاتب وناقد وأكاديمي مصري |
لقد كان التحول إلى الشكل الجديد ناتجاً عن تطور الشعور في استخدام الكلمات لخلق تأثيرات موسيقية تجسد التوترات النفسية، ومن ثم أصبح الإيقاع هو أساس بنية القصيدة الجديدة من خلال اتحاد الشكل بالمضمون في تلاحم عضوي، الأمر الذي جعل من القافية أحد الدوال التي تسهم مع غيرها في بناء النص وإنتاج دلالته، إذ لا تعد هدفاً في ذاتها، وإنما تأتي لتحقيق الترابط الصوتي والدلالي بين أجزاء القصيدة، وإن كانت وظيفة القافية تتحدد بناءً على شكلها داخل النص.
" فهي قد تقوم بوظيفة إيقاعية محققة ترابطاً نغمياً بين مجموعة السطور التي تقع فيها، وقد تتجاوز هذه الوظيفة الإيقاعية ـ مع تحققها ـ إلى وظيفة بنائية، فتشد جميع سطور / أجزاء القصيدة بعضها إلى بعض مكونة نصاً يتسم بالوحدة والانسجام، ومشكلة التجربة بتموجاتها وتقلباتها ". (1)
هذا وقد بالغت " نازك الملائكة" في بيان وظيفة القافية وأهميتها داخل القصيدة، حتى جعلتها " ضرورة نفسية وسيكولوجية ملحة لا سبيل إلى أن يستغنى عنها الشعر، بل إن الشعر الحر بالذات يحتاج إلى القافية احتياجاً خاصاً ". (2)
وفي كتابها " سيكولوجية الشعر " سجلت الشاعرة تسعة عوامل مهمة هي التي تجعل ـ كما ترى ـ من القافية تلك الضرورة التي لا سبيل إلى استغناء الشعر عنها، نوجزها فيما يلي:
(1) القافية في الشعر الحر تحديد لنهاية الشطر، إذ تخبرنا أن عبارة أو مقطعــاً مــن عبارة قد انتهت، وبهذا يصبح لكل شطر كيان يميزه عـــن غــيـره مــن الأشــطر المجاورة له.
(2) القافية الموحدة ـ جزئياً أو كلياً ـ في القصيدة الحرة تصبح وسيلة لخلق وحدة في القصيدة كلها، إذ تلم شتاتها وتربط الأشطر ببعضها.
(3) القافية وسيلة أمان واستقرار للقارئ، إذ يحس أن الـطـــريق واضـحــــة، وأنه لا يسير في غـابة أو متاهـــة، والدليل عــلى ذلـك " الـقـصـيـدة الـمـدورة " الـتي تمتد صفحات بلا أية وقفات ولا قواف ٍ.
(4) الـقــافيــة تنسق الفكر وتوضــح الــرؤية في ذهــن الشاعر، كما تدل على سيطرة الــشـاعر عــلــى قــصيــدتــه وتـمـكنه من تجربته.
(5) القافية جانب مهم من سيكــولــوجـية القصيدة، والمعاني غير الواعية فيها، إنها تعبير عن الأفكار الداخلية الكامنة في أعماق اللا وعي.
(6) الـقـافــيــة فــي جــوهــرهـا نغم يموسق الشطر بإضافة لحن إلى القصيدة، كما أن الصوت المتكرر يوحى بأشياء متعددة، وتكرره يعمق الإيحاءات.
(7) الـقـافـيـة تيار كهـربائي يسير في القصيدة، ويبث في ألفاظها مغناطيسية تجتذبنا دون أن نعلم لماذا؟ إنها تكهرب السياق بمجرى موجة غامضة نستشعر سطوتها ولا نشخصها.
(8) يعتقد بعــض الشعراء أن القافية قيد يقص جناح الشاعر، لكن ليس كل قيد يقص جناح الشاعر، إذ قد تكون للعيوب منافع عظيمة، فحين تضيق البقعة يقوى بصر الشاعر على رؤية التفاصيل وإدراك الأعماق.
(9) في شــعــر النضال والــمقاومة تعطي القافية إحساساً بأن الشاعر مُجهّز بعزيمة صلبة لا تلين، فالقافية قتال ومناضلة تنزل على السمع كالرعد.
وهكذا تعد القافية وسيلة للكشف عن الحقائق بأبعادها المادية والوجدانية والنفسية، كما تعد وسيلة للكشف عن الحياة الوجدانية بما فيها من إيقاعات وذبذبات وأنماط، كما تسعى لرصد إيقاعات الأعماق الداخلية بما فيها من انفعالات وأحاسيس واستجابات وعواطف ومشاعر ورغبات ومؤثرات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شكري الطوانسي: مستويات البناء الشعري عند محمد إبراهيم أبى سنة " دراسة في بلاغة النص " الهيئة العامة للكتاب – القاهرة – 1998 / 113
نازك الملائكة: قضايا الشعر العربي المعاصر ــ الطبعة الثانية – دار العلم للملايين – بيروت – 1992م / 184
نازك الملائكة: سيكولوجية الشعر – الطبعة الأولى ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة – 2000 م /15
Post A Comment: