حكم تصرّف الموظف المسلم في الأطعمة غير الحلال ببنك طعام لغير المسلمين | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 


حكم تصرّف الموظف المسلم في الأطعمة غير الحلال ببنك طعام لغير المسلمين | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
حكم تصرّف الموظف المسلم في الأطعمة غير الحلال ببنك طعام لغير المسلمين | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 


سؤال:

أنا مشترك في أحد بنوك الطعام في أمريكا، وهو يخص غير المسلمين، وأحيانًا يضعون أطعمة غير حلال، فهل لو أرجعها لهم عليَّ ذنب أم أطرحها في المهملات؟

الجواب : من المقرر شرعًا أن إطعام الطعام من أفضل الأعمال، وهو من أسباب دخول الجنة بسلام، كما صحّ عن النبي ﷺ، غير أن الشرع اشترط في الطعام الذي يقدّمه المسلم للآخرين أن يكون حلالًا في مصدره ومكوّناته؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد قال النبي ﷺ: " إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا" رواه مسلم في صحيحه (رقم 1015)، ولذلك نهى الله سبحانه عن الإنفاق من الخبيث فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 267].

فإذا أُهدي إلى المسلم طعام، ويعلم أن فيه مكوّنات حرّمها الإسلام تحريمًا قطعيًا؛ كالخمر أو لحم الخنزير، ولم توجد ضرورة شرعية تلجئه إلى تناوله، فالأصل أن يردّ الطعام إلى صاحبه، وفي ذلك صيانة لدينه، وبيان لأحكام الإسلام في الطعام، وهو من باب التعريف بالدين، وهو مقصد محمود.

فإن كان ردّ الطعام يترتب عليه كسر خاطر معتبر؛ كحال الجوار أو الصداقة أو الرحم، جاز له قبوله دفعًا لهذه المفسدة، ثم يكون له بعد ذلك أن يتصرّف فيه على أحد وجهين:

الوجه الأول: أن يصرفه لمن يدين بإباحة هذه الأطعمة؛ كغير المسلم المحتاج من أهل الكتاب أو غيرهم، إذا لم يترتب على ذلك تعاون مباشر على الإثم، وكان الطعام مالًا متقوَّمًا في حق الآخذ.

ويُقرَّر هنا أن دفع الطعام المحرَّم إلى غير المسلم لا يُعدّ تعاونًا على الإثم؛ لأن التعاون المنهي عنه شرعًا هو ما كان مقصودًا أو مؤثرًا في وقوع المعصية، أما في هذه الصورة فالإثم غير متحقق أصلًا في حق الآخذ؛ إذ إن غير المسلم يستحل هذا الطعام بحسب دينه وعادته، ولا يتوقف تناوله له على فعل المسلم ابتداءً.

كما أن دفع المسلم له أو امتناعه عنه لا يغيّر من عقيدة المدفوع إليه شيئًا، فهو يأكل هذا الطعام أصلًا، سواء وصله عن طريق المسلم أو عن غيره، فلا يكون المسلم سببًا منشئًا للحرام، ولا مشاركًا فيه، ولا مروّجًا له، وإنما هو تصريف لمال متقوَّم في حق الآخذ.

وعليه، فمناط تحريم التعاون على الإثم غير متحقق هنا؛ لانعدام القصد، وانتفاء التأثير، وبقاء الفعل مباحًا في حق غير المسلم، وهو ما تقرره القاعدة الأصولية: الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

وقد يُعترض على ما سبق بما ثبت في السنة من أن النبي ﷺ أمر بإراقة الخمر لما نزل تحريمها، فيُقال: لِمَ لا يُتخلّص من هذا الطعام قياسًا على الخمر؟

والجواب أن هذا القياس غير صحيح لوجود الفارق المؤثِّر؛ فإن الخمر حين حُرّمت كانت مملوكة للمسلمين، فلما نزل تحريمها صارت عينًا محرّمة غير متقوَّمة في حقهم، فكان الواجب إتلافها وإراقتها، دفعًا لمفسدة بقائها في أيديهم.

أما واقعة السؤال، فالأطعمة محلّ البحث ليست مملوكة للمسلم ابتداءً، وإنما هي ضمن نظام بنك طعام لغير المسلمين، وهي مباحة ومتقوَّمة في حقهم، وإنما التحريم خاصّ بالمسلم، فلا يصح قياس هذه الصورة على الخمر، لاختلاف العِلّة، والقاعدة أن القياس مع الفارق باطل.

وعليه، فإراقة الخمر كانت إزالةً لمحرّمٍ قائمٍ في ملك المسلم، أما هنا فالأصل تصريف المال المتقوَّم لمن يباح له، ولا يُصار إلى الإتلاف إلا عند تعذّر ذلك أو تحقّق مفسدة راجحة.

الوجه الثاني: أن يتخلّص منه إذا غلب على ظنه أن تصريفه سيؤدي إلى مشاركة في الحرام أو إعانة عليه؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، وتطبيقًا للقاعدة الفقهية: دفع المفاسد مقدّم على جلب المصالح، إذ المفسدة هنا دينية متعلقة بذمة المسلم، وهي أرجح من مصلحة حفظ المال وعدم إهداره.

وبالنظر إلى واقعة السؤال:

فالسائل يعمل موظفًا في بنك طعام في الولايات المتحدة، وهو بنك يخص غير المسلمين، وتقوم طبيعة عمله على استلام المواد الغذائية وفرزها وتوزيعها وفق نظام البنك، ولا يملك خيار القبول أو الرفض ابتداءً؛ لأن ذلك داخل في مقتضى الوظيفة لا في نطاق الاختيار الشخصي.

ومن المعلوم أن ما يُقدَّم فيه قد يشتمل على أطعمة محرّمة في الإسلام لكنها مباحة في دينهم، فلا حرج عليه في استلامها من حيث العمل الوظيفي، ولا في صرفها لمن يأكلها من غير المسلمين، ولا إثم عليه في ذلك؛ لانتفاء القصد، ولأن التصرف واقع في إطار وظيفة مباحة في أصلها.

ولا يجوز له إلقاؤها في المهملات ما دام يمكن صرفها؛ لأنها مال متقوَّم في حقهم، وإهدارها حينئذٍ مفسدة لا موجب لها. 

ويُنبَّه هنا إلى أن تردّد الموظف المسلم في مدى مشروعية عمله من حيث الأصل لا يُعالَج برفض أطعمةٍ لقومٍ يدينون بحِلِّها، إذ إن ذلك لا يرفع الإشكال ولا يغيّر من حقيقة العمل، وإنما الأولى شرعًا – عند بقاء التردّد وعدم طمأنينة القلب – البحث عن عمل آخر يزول به الإشكال من أصله، صيانةً للدين وراحةً للضمير، لا تعطيلًا لمصالح الناس ولا ردًّا لأموالٍ متقوَّمةٍ في حقّهم.والله تعالى أعلى وأعلم




Share To: