قدمت الرواية العراقية مسحا شاملا لما يدور في سجون واقبية الاجهزة الامنية وما جري للبشر من انتهاكات وتشريد واخفاء قسري وقتل ومطاردة وهروب حتى اصبح المكان الاكثر طردا للسكان في العالم، وضاعت انفس في الشتات ومستقبل وكل الرواة معظمهم دخل من باب النضال السياسي ضد الدكتاتور، ورصد جسارة وقدرة الشعب العراقي على تحمل الشدائد، ولكن الكاتب علي لفتة سعيد في روايته اللافتة والمميزة "السقشخي " الصادرة عن دار الفؤاد بالقاهرة رصد ما جرى في العراق بطريقة جد مختلفة وهو باب الشخصية المذعنة، المرتجفة، المشبعة بالخوف والتي تريد لا أن تسير بجوار الحيط، ولكن داخل الحيط ورغم ذلك تطارد من قبل السلطة الأمنية، واستخدم حيلة ذكية لكي يغطي احداث كثيرة وهو يبدأ في الولايات المتحدة حيث يتم القبض عليه ويخضع للتحقيق من قبل الاجهزة الامنية الامريكية بسبب وجوده في مانهاتن وبجوار مركزي التجارة العالمي والذي تم تدميرهم من قبل جماعات ارهابية يقال ان بن لادن يديرها.. من هنا يستعيد السيرة الذاتية لمدرس التربية الفنية ماجد الذي يبيع الشاي علي الرصيف لزيادة دخله، فمعروف أن مادة التربية الفنية مادة مهملة في العراق، والراتب لا يكفي وهو يتبع سوء الحظ ويعرف ذلك.. ففي طفولته التعسة حدث بينه وبين ولد في منطقة سوق الشيوخ الذي يسكنها شجار بسبب لعبة فقذفه الولد بطوبة، فجرى وراءه.. فالولد دخل قسم الشرطة فتم القبض عليه ولم يخرجه الا أم الولد عندما عرفت بالواقعة، وبعد ذلك يتم سلخ جسمه في المعتقل، لأن مخبر أمن في منطقتهم يريد أن يكتب تقارير ولم يجد أحدا فوشى به، بانه يذكر اسم صدام بسوء، ويسخر من الحزب.. ويكفي أن اقول لك أن الراوي ظل اياما لا يخرج من البيت حتى يسير بطريقة طبيعية وتلتئم الجروح، فيترك العراق هربا ولكن هل من زرع في قلبه الخوف وتشربه صغيرا من خلال ابيه أو خاله يونس رغم أني اعتقد أن الخال والأب مجرد كائنات ذهنية الغرض منها بث حكم ورؤى مباشرة عن الواقع والحياة والتاريخ عموما، ثم تشربه من خلال الادارة البوليسية للنظام السياسي في العراق، فعندما يهرب الى الأردن يصبح أسير فكرة واحدة أنه سيتم القبض عليه وترحيله أما من المخابرات الاردنية، أو المخابرات العراقية، فيسافر الى لبنان، وهناك يلتقي بزينب الذي يقع في حبها وتمثل له بر الأمان الأخير بعد رحلة قاسية مهلكة لم يذق فيها طعم السعادة ولا الامان، ثم يتزوجها وتسجل العقد في السفارة الأمريكية ويسافر ويشعر بانه تحرر تحررا كاملا اجتماعيا، وسياسيا ولكن يقع في فخ الصدفة التي لا تحدث الا لتعيسي الحظ، عندما يخضع للتحقيق من قبل الاجهزة الأمنية هنا يتدخل الجانب الواعي من الروائي فيقوم بمقاطع طويلة يذكر فيها تاريخ الحضارة العراقية، ودورها في التاريخ الخ.. واعتقد أنه هذا الجانب المعرفي افاد الكاتب في بناء الروائي بشكل جميل ولكنه ايضا اثقل العمل في بعض المواضع خاصة ان لديه غرام خاص بالمكان الذي يعيش فيه وهو سوق الشيوخ الذي يحمل عنوان الرواية فرغبته الحارقة وحبه لهذه المدينة جعلته يريد تقديم كل تفاصيل المكان، فقدم صورة بانوراميا لتاريخ البلدة من مبان ومدارس واديان مثل اليهود ودورهم الوظيفي في المكان أو الديانة الصابئية أو ديانة الصابئة المندائيون هي ديانة إبراهيمية موحدة يؤمن أتباعها بأنها أول وأقدم الديانات والشرائع السماوية، وطقوسهم والتسامح الذي يوسم المجتمع العراقي الخ.. ولكن رغم ذلك تظل لغة الكاتب علي لفتة سعيد غاية في الاتقان وأخرج الجانب المعرفي في لغة سهلة وبسيطة ودالة دون أي تعقيد ما، الرواية غنية وبالغة الثراء قدم قماشة واسعة باقتدار بسرد موفق 
ومن الرواية 

        لم أعلم في أيّ مكانٍ أكون، هل أنا بشرٌ مثلاً لم أزل أحتفظ بإنسانيتي، أم صرت شيئاً آخر يمشي على قدمين وعقله مؤجّل الاستخدام .. لقد أفزعتني الأمور بشكلٍ مرعبٍ وأحالتني إلى كائنٍ آخر يتحدّث معي بصوتٍ عال.. أصبحت متيقناً أنني ذاهبٌ إلى حتفي ولا أعلم ماذا حلّ بي ولماذا؟.. كلّ شيءٍ مختلفٌ لديّ فأنا المسكون بالألم صرت خائفاً من ألمٍ من نوعٍ جديد.. سؤالٌ واحدٌ ظلّ يتردّد في رأسي الآدمي ..أين زينب؟ اقتحموا البيت الذي لم أبت فيه سوى ليالٍ نسيْت عددها في هذا الجّحيم الجّديد الذي أنا فيه واقتيادي مكبّل اليدين وقد وضعوا رأسي في كيسٍ لكي لا أرى شيئاً، مثلما يضعون (عصّابة) على عيني حمارٍ يدور في ناعورٍ فلا يرى ما حوله..



Share To: