النَائِم "شْلِيفَرْ" | كولونيا | ألمانيا - بقلم نورالدين الغطاس

كُتِبَ في مثل هذا اليوم...

كانت أيام وسنوات صعبة، سوء الظن، النظرات الحادة والمملوءة بالشك والاتِّهام اتجاه كل من هو عربي ومسلم./.. نَوْفَلْ وِسَامْ

ملاحظة:
بعد أحداث الحادي عشر شتنبر ٢٠٠١ بمَانْهَاتن، نْيُويُورك، وُضِعوا الطلبة العرب والمسلمين تحت الاتهام العام بألمانيا، البوليس والمخابرات الألمانية قاموا بحملة لا سابقة لها، جمع أكبر عدد ممكن من المعلومات حول العرب والمسلمين بالأراضي الألمانية، كما تم استدعاء الآلاف من الطلبة العرب المسلمين للتحقيق معهم بدون أي سابقة. 
*******
                                         الباب الرابع - النَائِم "شْلِيفَرْ"

 الأربعاء، الثاني عشر، شتنبر، ٢٠٠١، الممكن وغير الممكن، نام نَوْفَلْ على واقع الواقع، استيقظ على الواقع المتخيَّل...كان صباح يوم مُختلف. صباح النظرات الثاقبة والوجوه الفوّاحة بالاتِّهام. فنجان قهوته المعتادة له مذاق آخر. يوحى إليه ان الكَافِتِيرْيَا بمدرجات الجامعة بمدينة كُولُونْيا الألمانية تحولتْ الى مِنَصَّة. وعلى هذه المِنَصَّة يجد نفسه عريان وكأنَّه داخل صندوق أشعة الشمس الاصطناعية. لا يُمْكِنُه الهروب من النظرات الحادة لزملائه الطلبة، العيون تتبادل رسائل الشك، الصور التي شاهدها البارحة على شاشة التلفزة تجعل عقدة حاجبيه الكثيفين واضحة. لم ينم نَوْفَلْ من جراء الأحلام المرعبة. 

هل الحياة لعبة مرايا في آخر المطاف؟ وإذا كان الجواب نعم، لماذا؟

 نظرات الطلبة بالكَافِتِيرْيَا في هذا الصباح الكُولُونِي تحمل نفس السؤال، لكن لا أحد يبوح بكلمة: لماذا؟

 أخدَ جُرعة من فنجان قهوتِه وحاول طرد مرارة اللحظة بتحية زملائه عَلِىْ وابراهيم، جلسوا على رأس الطاولة الطويلة. "السلام عليكم"، "سلام حبيبي" كان رد ابراهيم ونظراته تشُقُّ في الأرض فارقاً كبيرا، يَا لَيْتَهم يدخلونه لكي يستريحُوا من وَقْع النظرات الثاقبة للطلبة الآخرين. زاد ابراهيم مسترسلا، "لقد تكلمتُ البارحة مع والدتي". كُل منهم يعرفُ والدة ابراهيم "لاَ لَّا عَايْشَه"، امرأة من فولاذ، شُجاعة، وكما يقول نوفَلْ، امرأة ينبتُ الشَّعْر على أسنانها، تُكَلِمُ ابنها ابراهيم كل أسبوع وهي حريصة بكل دقة على كل خطواته، امرأة يحتاج عالمنا الى الكثير من امثالها. زاد ابراهيم قائلا، كما تعلمون والدتي امرأة أُمِّيَة، لم تَزُرْ يوما المدرسة. مطالعتُنا للكتب تقلقُها، تقول إن تعلمنا غِشاوة على أعيننا، وهذا أفزع من الأُمِّية. ما نُعْطِيه يُحدِّد حجم ما نَسْتَرْجِعُهُ، والذي يبصِقُ إلى أعلى، لا يجبُ أن يتفاجأ إذا رجعتْ البصقة مباشرة على وجهه، أو على رأسه، على الأقل.

هكذا هي والدة ابراهيم، تبوح دائمًا برأيها، إذا أدرجت في الحديث لا يستطيع أحد مقاطعتها، أخد نفسا عميقا بينما أمه تواصل الكلام، هكذا البشر يا وَلْدِ ابراهيم، يلهفُون دائما وراء المال والسلطة. نعم الوَالِدَه، لكن هذه المرة الأمر يختلف، الإرهاب كيفما كان لونه يجب محاربته بكل الوسائل الممكنة والقانونية. صمتْ عارم جعله يعتقد أنّ الخط الهاتفي انقطع. لحظة، ثم قالتْ بصوت منخفض، رجل فقد محفظته، يبحثُ عنها تحت فانوس الشارع، مَرَّ صديق فسأَلَهُ، ماذا يفعلُ هنا؟ فأجابه، أبحثُ عن محفظتي المفقودة، أين فقدتَهَا يا رجل؟ فقدتُ محفظتي هناك بالظلام، لكنني لا أرى شيئًا هناك. كانتْ والدته في هذه المكالمة ليست كعادتها، تبدو أنَّهَا مشغولة بما وقع في أمريكا، ربما أكثر بما سَيَقَعُ كردود فعل، فقدتْ ابتسامتُها الواسعة، سألته، هل لديه يوميات جديدة، لا، ليس هناك أمور جديدة تستحقُ الحكي...

فجأة، انهارت من الضحك مما جعله يشْعُرٌ أنَّها ما زلتْ بخير. استرسلتْ، لقد تذكَّرتُ حِكايتُكَ مع أول امرأة ألمانية تعرَّفتَ عليها، نعم، هكذا كان اللقاء: يُقال بين الطلبة الأجانب ان أسرع وسيلة لتعلم اللغة الألمانية هو التَعَرُّف على امرأة ألمانية والدخول في علاقة حب، بالحب يَلِينُ كل شيء، حتى اللسان واللغة، لذا قرر نَوْفَلْ استغلال موسم الكَرْنَفَالْ بمدينة كُولُونْيَا للتعرف على امرأة، في أجواءِ الكَرْنَفَالْ لا يحتاجُ الإنسان إلى كثير من الكلام، الاحتفالات تكون عارمة وسط ضجيج الموسيقى والنبيذ، إذن، تنكَّر في بدلة لراعي الجِمَالْ، جَلَّابة داكنة من أقصى جنوب المغرب و نقاب أزرق طويل لفّه على رأسه ووجهه، فقط عيونه البُنِّيَة الغامقة، مكشوفة. دخل أجواء الكَرْنَفَالْ بنجاح في مهمته، تعرف بسرعة على كْلاَوْدْياَ، فتاة في منتصف العشرينات من عمرها، أُعجبتْ براعي الجِمِالْ من الصحراء الكبرى، رغم ركاكة لغته، اصطادتْ اليوم لَوْرِنْسْ العَرَبْ على حد اعتقادها، مجاملة جميلة زادتْ من معنوياته، جلسوا على حافة السرير في حجرته الصغيرة بالحي الجامعي، ضوء الشموع يخلقُ رومانسية رهيفة، حفَّزته على الكلام أكثر، خصوصا عيونُها الكبيرة في وجهها الرقيق الملامح، فقال لها، وهو الشاعر الذي لم يُكْتَشَفُ بعد، أنتِ جميلة كبقرة هُولَنْدِية، وقفتْ كْلاَوْدْيا على التو، جمعتْ ملابسها وخرجتْ دون التِفاتة، عرف فيما بعد، أن كلمة بقرة هي من أقصى الشتائم للنساء الألمانيات...

رد على والدته وهي مازالت منشغلة بضحكتها الطويلة على خط الهاتف، أنتِ التي كُنْتِ تُحبِّبين بنات الجيران لإخوتي الكبار، سمعتُكِ كم من مرة تقُولين، "بَنْتْ الخيَّاطْ زْوينَة، عَيْنِهَا كْبَارْ كَفْحَالْْ بَكْرَه هُولَنْدِيه"، عيون جميلة جمال عيون البقرة الهُولَنْدِية، لَا لَّا عَايْشَه لا خوف عليها، أجابت: "إِيِّه، بَّا الله ارحْمُه كَانْ فَلاَّحْ كَيْحَبْ البَكْرَة الهُولَنْدِية".

البقرة الحلوب، مزركشة بالأبيض والأسود، عيونها كبيرة وجميلة. بعد الكَرْنَفَالْ لم يبقى لإبراهيم إلا القيام بمحاولة أخرى للتعرف على امرأة من جديد...، هكذا والدته، ضحكا كثيرا على الهاتف رغم عنف الأحداث.
 قال عَلِىْ الذي كان يَسْتَمِعُ باهتمام الى مكالمة ابراهيم مع والدته وهو يُبْعِدُ الطفَّاية المملوءة بالسجائر، مُمكن ان تكون والدتُكَ على حق، الوسخ يجد طريقه حتى إلى الرؤوس والأفكار في كل مجتمع. 

حركة دؤوبة بالكَافِتِيرْيَا هذا الصباح، الطلبة يجلسون في تجمعات صغيرة وكبيرة تعكسُ حضورهم من بلدان مختلفة، لكل بلدٍ مكانه المعتاد، يُمكن للزائر ان يعرف من خلال اقتباس بعض الكلمات في الهواء أين يجلس، الإيرانيون، المغاربة، الأتراك، الألمان ...، الكل مُنْغَمِس في موضوع الساعة، رغم اختلاف اللغات نفس الكلمات تعلو الأفق: بِنْ لَادِنْ، طَلِبَان، اسلام...

سأل إبراهيم نَوْفَلْ، هل أنتَ مسلم، عربي، طالب ومستقل ماديًا؟ هذه هي المعايير التي تستعملها الآن المخابرات الألمانية من أجل تحديد المشتبه بهم، ما يسمونهُ "شْلِيفَرْ"، يعني النَائِمْ وكأنَّ كل طالب عربي ومسلم قنبلة مؤقتة، فعندما تُسأل مستقبلا عن اسمك، أو ما تقوم به بألمانيا، أجب باختصار بأنك "شْلِيفَرْ". السائل سوف يفهمُ على التو ما في الأمر. هكذا ابراهيم كوالدته، يَمِيلُ دائما إلى الفكاهة لهضم أصعب اللحظات، أحيانًا لا يبقى للمرء إلا أن يستعمل سخرية قدره السوداء لتحدي القدر نفسه.

هَويتُكَ الجديدة، أنتَ "شْلِيفَرْ" يا نَوْفَل! أما الحقيقة فستبقى قطعة عجينْ في أيدي بعض التافِهونْ...

في طريقه الى مكتبة الجامعة لعلَّه يجد في هدوئها وبين كُتبها رحمة من لسعات العيون القاتلة، سأل نَوْفَلْ نفسه:

هل يظنُّ زميلي الألماني بالفعل أنني "شْلِيفَرْ"؟




الصورة:نْيٌويٌورك

#دفاترـمسافر #حكاية #يوميات #ألمانيا #المغرب #كتابة #ذكريات #9/11 #remembering



Share To: