(الجزء الثاني)
(سوف نكتفي هنا بالحديث عن التشكيل البديعي للنص على أمل إلحاق بقية الدراسة بمكانها في كتاب : أنطولوجيا قصيدة النثر ... منعًا للتطويل والإثقال على الأصدقاء)
التشكيل البلاغي للنص
لقد خرجت الأنا الشاعرة في النص – من خلال الزاوية التحليلية السابقة – من طبيعتها الفيزيائية لتصبح تجريدا خالصا؛ لأن الشاعر لم يتحدث عن نفسه، وإن كانت أناه الشعرية متجلية في النص بوضوح، ولكنها الأنا المبدعة من حيث كونها ممثلة لأنوات الإبداع عامة، وليست ممثلة لنفسها فقط، ومن هنا قلنا إنها تخلَّت عن طبيعتها الفيزيائية، لتتلبس بالطبيعة التجريدية، مما يحوِّل طبيعتها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين الأنوات الشاعرة عامة، فالشاعر هنا لم يتحدث بوصفه فردا من أفراد المجتمع يعاني تيه الأحاسيس والمشاعر، وخيانة الجسد والذاكرة، بل تتحدث الأنا الشاعرة بوصفها تجلِّيًا للأنا المبدعة المعاصرة الساعية إلى الانعتاق من كينونة الجسد المجهد، والمجاز الذي أصبح كالمهرج العجوز، وأقفاص اللغة، والخيال المؤدلج، والدلالة التي تحاول أن تحلق بأجنحة مكسورة، إنها الأنا المبدعة بصفة عامة، وليست أنا الشاعر بصفة خاصة. وسوف نتوقف هنا أما زاوية أخرى من زوايا التحليل، وهي التشكيل البلاغي للنص في محاولة لاكتشاف جوانب أخرى لم تستطع زاوية التحليل السابقة الكشف عنها، أو لتأكيد ما رصدته زاوية التحليل السابقة؛ لتتجلى بذلك عوالم النص، وتنكشف الدلالة، وتصل الرسالة التي أرادها المبدع، وغلَّفها بمجموعة من الأقنعة؛ كي يغري المتلقي بمتابعة إغواءات النص من أجل اكتشاف دسائسه، واكتناه عوالمه.
أولا: التشكيل البديعي للنص
يعدُّ الطباق أحد العناصر البديعية التي يعتمد عليها الشاعر في بناء صوره، ولابد أن نؤكد أن "الجانب الإشاري للتركيب هو الذي يقوم بتشكيل الدلالة وإنتاجها من خلال مجيء هذا التركيب ضمن شبكة من العلاقات التي تربط بينه وبين غيره من الدلالات المتخفية خلفه، والتي تمثل خلفية تصوُّرية يمكن دفعها إلى ذهن المتلقي من خلال التركيب البارز على السطح" (قصيدة المديح في شعر حمد أبو شهاب: مقاربة نقدية د . محمد سعيد شحاتة، ص150) يقول الشاعر (يحلق بأجنحة مكسورة) يحمل هذا التعبير طباقا بطريقة ما؛ إذ إن التحليق يحمل معنى الطيران، ولفظ مكسورة يحمل معنى العجز عن الطيران، إن الدلالة المباشرة لهذا التعبير أن هناك تحليقا فعلا، وأكثر من هذا أن الشاعر يستخدم الفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار؛ ليدل على أن هذا التحليق في تكرر واستمرار، ولكن يفاجئنا التعبير بلفظ (مكسورة) وهو دال على العجز عن التحليق؛ لأن الجناح المكسور لا يستطيع التحرك، فكيف يتم التحليق به وهو مكسور؟! إن الطباق هنا يشكل نسقا أعمق من الدلالة السريعة التي تطفو على السطح، إنه يمثل "بنية موازية من حيث البناء اللغوي لبنية الدلالة" (بناء الأسلوب في شعر الخداثة: التكوين البديعي د . محمد عبد المطلب، ص 147) فإذا كان الشاعر قد استخدم الفعل في التحليق الدال على الحركية فإنه استخدم الاسم في (مكسورة) الدال على الثبات، ومن ثم فإن الدلالة هنا تأخذنا إلى عمق النص؛ لاكتشاف مراد الشاعر من استخدام هذا التعبير، وفي هذا الجانب من الرؤية نجدنا أمام معضلات لابد من فهمها، أو محاولة تفكيك رموزها، فقد جاء الفاعل للفعل (يحلق) ضميرا مستترا يعود على الضمير الذي يسبق الفعل مباشرة (وهو يحلق بأجنحة مكسورة) والضمير هنا مذكر قد يعود على النص في قوله (لن يفيد النص كثيرا) وقد لا يعود؛ لأن لفظ (النص) يمكن قراءته بطريقتين، الأولى أن يكون مرفوعا بحسبانه فاعلا للفعل يفيد، فيكون التحليق بذلك حالا للنص، أي (لن يفيد النصُّ كثيرا وهو يحلق بأجنحة مكسورة) وهنا تصبح الدلالة منصرفة إلى توصيف النص الذي يعاني قصور التحليق نتيجة فقدانه أسباب هذا التحليق، وهو ما عبَّر عنه سابقا في الأخيلة التي يتمنى أن تمطرها السماء، أو المجاز، والطريقة الثانية أن يكون لفظ النص منصوبا بحسبانه مفعولا به للفعل يفيد، ويكون الفاعل ضميرا مستترا يعود على المهرِّج العجوز الذي تذكّر أحفاده، فعبرت دمعة، وهذا المهرِّج هو أصلا مشبه به للمجاز، فالمجاز كالمهرِّج، وبالتالي فإن الدلالة هنا تنصرف إلى معنى آخر، وهو أن المجاز الذي أصبح كالمهرِّج العجوز لن يفيد النص كثيرا وهو يحلق – أي المجاز/الخيال – بأجنحة مكسورة، ومن ثم يصبح المتلقي أمام دلالة جديدة، قد يريد الشاعر لفت الأنظار إليها، وهي جمود الخيال أو المجاز الذي أصاب العقل المبدع فأصبح النص غير قادر على الاستفادة من هذا الخيال الذي أصبح كالمهرِّج العجوز، وهذا يدفعنا إلى البحث في دلالة اختيار لفظ المهرج وصفا للمجاز، ولم يكتف الشاعر بهذا اللفظ فقط، بل أضاف إليه لفظا آخر أشد سلبية في الدلالة، وهو لفظ العجوز، فإذا كان الخيال/المجاز قد صار مهرجا فإنه قد صار كذلك عاجزا عن ممارسة التهريج، أي أنه حتى في حالة خروجه عن مساره الطبيعي فإنه عجز عن أداء مهامه في هذا المسار، إننا هنا أمام استخدام محكم للألفاظ، يضعنا مباشرة في دائرة البحث عن تأويلات يمكن أن تحتملها صياغة الجمل الشعرية.
وإذا كان الشاعر قد استخدم الحركية في التحليق من خلال اختيار الفعل (يحلق) واستخدم الثبات في حالة العجز من خلال استخدام الاسم (مكسورة) فإن هذا يدفعنا إلى القول بأن حالة العجز عن الخيال والطيران في سماوات الإبداع هي حالة ثابتة، وتكاد تكون راسخة أي أنها حالة عامة، تصبغ الإبداع بصفة عامة، ولكن المحاولات للخروج من هذه الحالة مستمرة ومتكررة، فهناك محاولات جادة ومستمرة ومتكررة للنهوض من الكبوة التي أصابت الإبداع بجمود الخيال وتقليدية اللغة المحبوسة في أقفاص، وإرضاء الأذواق الضعيفة غير المميزة للغث من الثمين (يدغدغ الأطفال لا يزال)، وهذه المحاولات للنهوض تستذكر الأجيال القادمة التي يمكن أن يعوَّل عليها (تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور). إنها الصياغة الشعرية المحكمة التي تستهدف بث الرسالة في هدوء؛ ليفهمها من أراد، ولا يعنى الشاعر في هذا المجال بمن لا يهتم، بل إنه يعرف أن لا أحد يهتم، نفهم ذلك من خلال حالات السلبية التي طغت على حركة المعنى في النص، ومن الملاحظ أيضا أن الشاعر يلجأ في التعبير السابق إلى فتح الدلالة ثم إغلاقها، وقد تجلى ذلك في قوله (يحلق بأجنحة) فهو بذلك يفتح الدلالة أمام المتلقي فيعطيه الأمل في انفراجة؛ لأن لفظ التحليق في حد ذاته يدل على الإيجابية، والانطلاق نحو آفاق الإبداع، ولكنه لا يلبث أن يغلق الدلالة من خلال استخدام لفظ (مكسورة) فيمنع بذلك الإيجابية والانطلاق الذي حققه فتح الدلالة، وهي سمة عامة في النص، يلجأ إليها الشاعر؛ لتحقيق هدفه الذي بدا واضحا منذ صياغته للعنوان؛ فالعنوان نفسه يمارس تلك اللعبة؛ إذ يفتح الدلالة من خلال استخدام الفعل (يدور) الدال على الحركة، مما يفتح الأفق أمام المتلقي، ولكن الشاعر لا يلبث أن يغلق الدلالة من خلال استخدام لفظ (مفرغة)، ومن الملاحظ أنها السمة نفسها، ففتح الدلالة يكون باستخدام الفعل المضارع الدال على الحركة (يحلق – يدور) وإغلاقها يكون باستخدام الاسم الدال على الثبات (مكسورة – مفرغة) وبذلك يمارس العنوان سيطرته على الدلالة في  النص منذ البدء حتى الختام.
ويستمر الشاعر في استخدام الطباق في قوله (العجوز – الأطفال/الصغار)، (دمعة – الضحك) إما لاستدعاء المرحلة الزمنية بكل ملامحها المميزة لها، كما في قوله (العجوز – الأطفال/الصغار) فاللفظ الأول/العجوز يستدعي تيه المشاعر والأحاسيس وخيانة الجسد والذاكرة، وقد عبر الشاعر نفسه عن ذلك في قوله (هكذا لم تسعفه الذاكرة – الانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد) أما اللفظ الثاني/ الأطفال/الصغار فإنه يستدعي الحالة المعاكسة تماما من حيث براءة المشاعر والأحاسيس وحيويتها، وسلامة الجسد وقدرته، وقد عبر عنها الشاعر بقوله (الصغار المستغرقون في الضحك)، وإما لاستدعاء حالة شعورية ملازمة للمرحلة الزمنية كما في قوله (دمعة – الضحك) وهما حالتان شعوريتان تعبران عن مفارقة بين حالتين لمرحلتين زمنيتين مختلفتين، فالشاعر يرصد هاتين الحالتين في قوله (ربما عبرت دمعة دون ان يلحظها الصغار المستغرقون في الضحك) فالموقف الشعري هنا يرصد حالتين شعوريتين مختلفتين، حالة الحزن المصاحبة للعجوز، والتي عبَّر عنها الشاعر بلفظ (دمعة) وحالة البهجة والفرح الذي لا حدود له، والتي عبَّر عنها الشاعر بلفظ (الضحك) ولكنه استخدم في الحالة الأولى كلمة نكرة (دمعة) واستخدم في الحالة الثانية كلمة معرفة (الضحك)؛ لأن الحزن الذي يسيطر على العجوز غير واضح تماما؛ إذ أخفاه من خلال ممارسة التهريج الذي يحاول إضحاك الآخرين مما قد يشعرهم بأنه يشاركهم بهجتهم، أومن خلال إخفاء هذه الدمعة (دون أن يلحظها الصغار) ونلاحظ أن الشاعر قد وصف الحالتين (الحزن للعجوز – البهجة للصغار) بوصف واحد، وهو الاستغراق فيما يقومان به، (تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور – الصغار المستغرقون في الضحك). وفي جميع الأحوال فإن الطباق قد عبَّر عن دلالته المتوخاة في النص.

يدور في حلقات مفرغة
د. عيد صالح
يدور في حلقات مفرغة
وهو يعلك علي الطوى والكهولة
ذكريات آسنة
ربما تمطر السماء بعض الأخيلة
أو يلعب المجاز
كالمهرج العجوز الذي يدغدغ الأطفال لا يزال
ربما تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور
ربما عبرت دمعة دون ان يلحظها الصغار المستغرقون في الضحك
لن يفيد النصُّ كثيرا
ولن ترتفع الدلالة وهو يحلق بأجنحة مكسورة
هكذا لم تسعفه الذاكرة
ولعب به الخيال المؤدلج
وحاصرته أقفاص اللغة
ربما في غفلة من تصلب الشرايين
ولهاث القلب الطعين
وأقراص النيتروجلسرين
ربما في قفزة الغيبوبة
والانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد
يصَّاعد النص وهو يتراقص
في فضاءات أعراس وملائكة وطيور
وأغاريد
ربما تحدث المعجزة
ويصحو علي هودج في الثريا
في تطوافه الأخير
٩ سبتمبر ٢٠١٦



Share To: