قبل نحو 15 عاما حظيت باستضافة الأديب الكبير الراحل إدوار الخراط (1926 – 2015) مع زوجته في ألمانيا. ورغم تقدمهما في العمر كانا يتسمان بالحيوية وحب المعرفة، وكانا حريصين على زيارة المعالم السياحية في المنطقة والذهاب إلى متاحف الفن. أحد المتاحف التي ذهبنا إليها معا كان في مدينة صغيرة بالقرب من مدينة دورتموند تدعى بوتروب. كان المتحف الصغير مخصصا لأعمال الفنان الألماني المعروف يوزف ألبرس (1888 – 1976) الذي ولد في المدينة نفسها. عندما يقف المرء أمام لوحات ألبرس يكاد يظن أن الفنان لا يفعل شيئاً سوى تكرار نفسه. الفكرة الأساسية التي انشغل بها ألبرس طوال حياته هي التأثير المتولد عن تجاور الألوان والأشكال والخطوط. ومن أشهر أعمال ألبرس مجموعة لوحات بعنوان "احتفاءً بالمربع"، وتتكون كل لوحة من هذه المجموعة من ثلاثة أو أربعة مربعات متداخلة ذات ألوان مختلفة، أو درجات مختلفة من اللون الواحد. أما هدف ألبرس من هذه المجموعة فهو إثبات أن تأثير اللون على الرائي يختلف اختلافاً كبيراً باختلاف المحيط اللوني.
في متحف بوتروب يرى الزائر لوحات لا حصر لها تشبه بعضها بعضاً؛ ولكن، حقاً، كل لوحة كانت بالرغم من ذلك مختلفة، وفريدة. أتذكر أن هذا الإلحاح، بل الهوس، قد بهر إدوارد الخراط الذي راح كالمجذوب يتتبع هذا الانشغال والإخلاص لفكرة فنية ما، هذه التنويعات التي لا تنتهي لفكرة لا تتغير. كان يتأمل طويلاً كل لوحة، ويحدثني عن اختلافها عن سابقتها، وعن تأثير تجاور الأزرق مع الأحمر، أو الأحمر مع الأصفر، واختلافه تماماً عن اللوحة التي يجاور فيها الأصفر اللون الذهبي واللون البرتقالي؛ وأمام إحدى اللوحات قال وكأنه يحدث نفسه: "ويلومني النقاد ويتهمونني بأني أكرر نفسي!" وبعد أن انتهينا من رؤية كل اللوحات، عاد الخراط للوحة الأولى. وقبل مغادرة المتحف كان قد ذهب إلى مكتبة المتحف واقتنى كتالوغ الأعمال الكاملة ليوزف ألبرس.
تذكرت هذا الموقف وأنا أستعيد أعمال ماكس فريش (1911 – 1991). فريش يشبه في ناحية من النواحي يوزف ألبرس أو إدوار الخراط. هنالك سؤال "ملحاح" – على حد تعبير يحيى حقي – نجده في معظم أعماله، أعني سؤال الهوية الذي أضحى بمثابة "العلامة المسجلة" له. ومثل ألبرس والخراط فإن تنويعات هذا السؤال لديه لا تنتهي.
من مقدمة #شتيلر
#ماكس_فريش
#ترجمة_سمير_جريس
Post A Comment: