تبدو الصورة وكأنها قادمة من عالم مغرق في القدم، من مئات السنين ربما. ليلة شتاء قارسة، في مخيم للاجئيين الفلسطينيين، والكل متحلق حول "صوبا" المازوت، وحول الجدة التي تروي حكاية.
والجدة تبدأ: "كان يما كان في قديم الزمان كان في ولد اسمه الشاطر حسن.. وبيوم من الأيام قال لأمه لفي لي زادي وزوادي.."
وتبدأ معها رحلة الشاطر حسن. صحارى وغابات وبحار، قلاع وقصور وملوك واميرات وفرسان وقطاع طرق وساحرات وجنيات وغيلان ووحوش .. وكل ذلك يجري في سياق وفقاً للمعادلة البسيطة حرب الاخيار ضد الأشرار والشاطر حسن طبعاً في صف الأخيار دائماً.
ثم تكون الخاتمة حيث الخير دائماً ينتصر على الشرّ ويعود الشاطر حسن الى اهله سالماً معافى ولكن أشدّ معرفة وحكمة. وتأتي تلك الجملة الطريفة: "وهاي حكايتي حكيتا و وبايديكو حطيتا". (هذه حكايتي رويتها لكم وبأيديكم وضعتها)
كنا نظن أن هذه مجرد عبارة تقولها الجدة اعلاناً عن نهاية القصة أو حتى نهاية السهرة العائلية الدافئة نفسها. ولكن لا ، هذه اعلان تسليم الأمانة. القصة أمانة. أمانة كانت الجدة قد تسلمتّها من الجيل الذي سبقها، وهي ترويها لكي توصل، الأمانة،  للجيل الذي أتى من بعدها. "الامانة بأيدكم الآن،" وكأني بالجدة تقول، "وعليكم أن توصلونها الى من سيأتي من بعدكم، تماماً كما فعلت أنا."
هكذا يتمّ التناقل الشفوي للثقافة من جيل الى آخر لما هو مصدر تسلية ومعرفة وحكمة اخلاقية.
نحن الذين ذهبنا الى المدارس والجامعات، وتلقينا تعليماً حديثاً، لم نفهم الأمر ولم نكترث أصلاً لكي نفكر فيه ونفهمه. نسيناه أو تناسيناه. من يريد أن يشغل رأسه بحكايات خرافية ترويها جدة على حافة قبرها؟ 
نحن ابناء العصر الحديث والعلم الحديث، ومن يريد أن يكون في داخل التاريخ، يجب أن يدير ظهرة للثقافة التقليدية والشعبية وخرافاتها. طبعاً نحن لم ندرك، أننا كنا فقط نستبدل خرافة بخرافة أخرى، الا بعد سلسلة من الهزائم والخسارات على المستويين العام والخاص.  خسرنا الثقافة الشفوية ولم نستفد شيئاً يستحق الاحترام من الثقافة الحديثة.
حينما اعود بذاكرتي الى تلك الليالي الماضية البعيدة، أتوقف الآن عند الجدة  نفسها. امرأة كانت قد فقدت كل شيء تقريباً، بيتها، ارضها، مرابع طفولتها وشبابها، العالم الذي ولدت ونشأت وتزوجت وانجبت أطفالاً فيه.
وهي الآن لم تعد سوى لاجئة مسنة لا احد يكترث بحقيقة وجودها أو ذكرياتها. فجأة تجد نفسها مركز الاهتمام، الكل يصغي اليها، الكل، وبصمت وانتباه، يتابع ما تقوله وما ستقوله بعد. أميرة هي أخيراً.
وهذه فرصتها لكي تستعيد ذكرياتها من خلال أداء دور الحكواتي الذي لا بد وانها تعلمته من والدتها أو والدها أو جدتها. هي فرصة أيضاً لكي تستعيد ذكرى الليالي الماضية في زمن آخر في البلاد المسلوبة. ولكي تروي قصة صراع الخير مع الشرّ وانتصار الخير في النهاية.
تصير قصة الشاطر حسن قصتها هي نفسها وكيف خسرت كل ما ملكت في صراع انتصر فيه الشرّ على الخير. ومن يدري لعل هذه هي الأمانة الحقيقة التي ارادت ان تسلمها لأبنائها وأحفادها من بعدها. لعلها اردت أن تذكرهم، انه اذا كان الشرّ قد فاز بالجولات الأولى،  فان الخير ينتصر في النهاية.



Share To: