إذا ما نظرنا الى هذا المعرض بالاحساس وأدركناه بالذاكرة فإننا سنضعه الموضع الحقيق به.. وإلا سيكون في موضع "الحدث الثقافي العابر". فما كان لـ"بيروت الثقافية" في ستينات القرن العشرين وصولاً الى منتصف سبعيناته (حيث اندلعت حرب الدمار) نجده في هذا المعرض الذي يُعيد مَنْ تواصل مع بيروت، كما تواصلتُ، الى ما كان ـ يوم كانت بيروت تفتح ذراعيها بمحبة القادم إليها: مثقفين، وشعراء، وفنانين كان وضاح فارس واحداً من أبرزهم وأكثرهم حضوراً، وقد قالت له: هذا فضاء حريّتك، فاكتب، وارسم، وصوّرْ صورَ توثيق لعلاقات (لم تعد قائمة) لتُخلّد بي/ ومن خلالي: الإنسان، والحرية، والإبداع. فكان أن فَعل.
كانت بيروت "صانعة حرية"، و"فضاء حرية"، ومنزل قاطنين من أهلها، كما هي ملاذ حنون لهاربين إليها من جحيم بلدانهم التي كانت تتفنن في التعسف معهم.
هذا كلّه نجده يتفتح من خلال "الذاكرة التوثيقية" للفنان وضاح فارس الذي جعل للفن، في معرضه الاستعادي هذا، بُعدين، وهما: البعد المتحقق فناً في لوحات وتخطيطات لها بُعدها الإبداعي المرتبط بزمان ومكان كان الفنان، معهما/ فيهما، صاحب منزلة. والبُعد الآخر تحققه (أو يتحقق) من خلال "الصورة الفوتغرافية ـ التوثيقية" التي تجمع بين وجوه، وتجسّد تفاعل علاقات، وتفتح آفاق أزمنة، وأمكنة كانت للإنسان هنا، وكان بها. فإذا كان في البُعد الأول منهما يعتمد العين (المنظور متعيِّناً تعيناً لا يخلو من التخييل) والإحساس، فإنه في البُعد الآخر يعتمد عينين/ منظورين، وهما: عينه، هو الفنان، في الكيفية التي يرى فيها "الإنسان ـ المشهد"، و"عين الكاميرا" التي توثّق ما يجتمع لها.. لنجد لكل صورة دلالتها، ومعيارها الفني.
من هنا لم يكن الفنان في معرضه هذا (غاليري صالح بركات ـ بيروت 2017) الشاهد على بيروت الستينات والسبعينات حسب، بل قدم صورة بيروت، كما استجمعها رؤية وذاكرة عبر خمسة عشر عاماً (1960ـ 1975). فالجيل الذي ظهر بين هذين التاريخين، وعرفته بيروت وعرفها، جيل بقدر ما حمل من أعباء الحياة ـ مساراً بها نحو التغيير، فإنه حمل هموم الحداثة التي بشّر بها وتبنى منطقها. ولم تكن هناك مدينة عربية أكثر من بيروت انفتاحاً، واحتفاءً، بالحداثة وتياراتها. والصور التي تُطل علينا من خلال عدسة الفنان (عينه الألكترونية)، وقد وثّقها بالأبيض والأسود، تقول الكثير:
ـ فهي، ومن خلال الوجوه والأسماء، تقول: هنا كان الميلاد الحديث لما عُرفَ بـ"قصيدة النثر"، فكانت انطلاقتها التي أسست لمنحى شعري تجديدي آخر جعل للحداثة الشعرية سمات مميزة، وخصائص فنية وموضوعية ستعرف التطور على أيدي روادها (الذين تُوثقهم الصورة، لا الكلام).
ـ وتقول: هنا، ومن هذا المكان عرفت الثقافة والفنون الإبداعية والصحفية مدارات أخرى انتظمت فيها حركات ومعطيات، فقدمت الكثير الذي يبقى.
ـ وتقول لتؤكد: هكذا كانت الحياة اليومية في "طقوسها البيروتية". فهي لم تكن "مدينة مكانية" متعينة في ما لها من شوارع، ,ازقة، وخصائص بناء، وبحر.. حسب، بل هي "مدينة زمانية"، أعطت النهار "أبعاد العمل"، وجعلت من الليل فضاءً للقاء والحوار.. والصخب أيضاً. وكانت مقاهيها فسحة وجود تتسع للكثير، وأهم ما كانت تتسع له: الحوار الذي كان هناك من يتداوله، وهناك من يجني خلاصاته ويترقب نتائجه، سواء في ما تأتي به الصحافة في يوم تالٍ، أو تخرج به المطابع من كتب غير قليل منها يحمل "مشروعات تأسيس". فهي مدينة لم تكن تخاف من الحرية، ولا تتهيّب الفكر الجريء الذي يخرج على "مألوفات العقل". كما كانت منطلق أسئلة. وأما الجوابات التي تأتي بها.. لو تفوّهتْ بها مدينة أخرى وقالت لـ إلتفّ حبل المشنقة حول عنقها.
اليوم، ونحن نواجه هذا كلّه مواجهة استعادة واستذكار يوفرها لنا هذا المعرض، نتساءل: أما تزال بيروت، المدينة الشعرية، بمعاني الشعر الكبرى، محافظة على فتنتها هذه التي يعكسها المعرض؟
قد يُواجه سؤالنا هذا غير صدمة:
فالصدمة الأولى كانت حين ظلت أسئلة مثقفيها كبيرة فلم يتحمل ثقلها "بعض الواقع". وبديل الجواب بالكلمات جاء الجواب بالرصاص، فتحدث "فم البندقية"، وانغلق فم الانسان لهول ما واجه من "فنون الموت".
و الصدمة الثانية كانت يوم كابر البعض وقال: إن سكتت الأصوات فإن الفكر لم يسكت. لكن المفاجأة كانت حين امتدت البندقية الى العقول.. فنثرتها على أرض الشارع ـ التي كانت، بدورها، أرضاً محروقة.
والصدمة الثالثة هي في هذا "البُعد الاستذكاري" للمعرض، إذْ يبدو وكأنه يقول، ويؤكد: لقد كنا/ كانوا هنا بكل ما لنا/ لهم من "معطيات حياة جميلة".. نأمل أن لا تكون قد ذهبتْ.
وأما وضاح فارس فهو فنان جمع بين شغف الهواية وروح الاحتراف، فكان مغامراً على طريقته:
فقد دخل المدينة ـ بيروت وراح يتعرّف الى المجهول من دروبها، ومشاهدها بدِرْبة وشجاعة، ولم يكن مسكوناً بشيء من "إحساس الغريب"، بل كان واحداً من رموزها، على الرغم من كونه ليس ابنها بالولادة..
وها هو اليوم ينتصر لها.. ولكن، لـ بيروت التي كانت.. وقد كانت أوسع من رغبات الحالمين بالحياة والحرية.
أما نحن فنقف أمام هذا كله، ونقول: أيها الماضي.. كم كنتَ جميلاً.. وأنتِ يا بيروت.. كنتِ الأجمل.
Post A Comment: