لسبب ما غامض طوّرت في شبابي المبكر حباً متخيّلاً لمدينة باريس. اظن انه بدأ في المرحلة المدرسية المتوسطة . كان عندنا مدرس يحب أن يفعل أي شيء ما عدا أداء واجبه، وهو التعليم. كل مرة كان يأتينا بلعبة أو قصة ما. مرة سألنا عن المدينة التي نحب أن نعيش فيها. تقريباً كل من سبقني من التلاميذ اختار القدس. طبعاً كفلسطينيين في مخيمات اللجوء، كان من واجبنا أن نُظهر ولائنا لبلادنا في أية مناسبة، ومن ثم كانت مدينة القدس الاختيار الشعبي.
حينما وصل الدور اليّ لم اتورع عن اختيار مدينة باريس.
باريس؟ هتف المدرس باستغراب، لماذا؟ جدك فرنسي؟ تتكلم الفرنسية بطلاقة يا فيكتور هيغو؟
بعد بضعة أعوام، قرأت كتاب ارنست همنغواي "عيد متنقل" عن ذكرياته حينما كان يعيش في العاصمة الفرنسية ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، باريس العشرينات، الفنون والتيارات الأدبية الجديدة والمقاهي والحي اللاتيني. وطبعاً الخلاصة في عبارة احدة يقولها همنغواي: "اذا ما قيد لك العيش في باريس وأنت شاباً فانك لن تنساها البقية الباقية من حياتك." عبارة نسختها على أكثر من كتاب واحد ودفتر.
ثم كان القرار الالهي بأن أقيم منذ شبابي، غير المبكر، في لندن. لكن الحلم في زيارة المدينة الفرنسية لم يفارقي وهو بات حلماً قابلاً للتحقق. لم ازر باريس الا بعد خمسة عشر عاماً من الاقامة في لندن. كانت انكلترا قد صبت على طحيني الماء وعجنتني وخبزتني من جديد. ذهبت الى مدينة الحلم المبكر، وزرت كل الاماكن الشهيرة، الشانزليزيه، والحي اللاتني، وحدائق اللكسمبورغ وبرج ايفل والمقاهي والحانات. أردت أن أعيش اللحظة فذهبت الى "كافيه دي فلور" ومعي علبة سجائر جيتان. جلست الى طاولة صغيرة على الرصيف أمامي، كأس نبيذ وفنجان قهوة. ثم فجأة تملكني شيطان الدعابة وأردت ان أقول شيئاً مثيراً للاستفزاز. نظرت الى رجل يجلس الى طاولة محاذية ومن دون تردد سألته ان كان يتكلم الانكليزية. أجاب بالايجاب وأبدى ترحيبا في الكلام بالانكليزية. وجرى بيننا حواراً سوريالياً اعيد صياغته هنا بشيء من التصرف.
سألته من دون تردد:
"هل جان بول سارتر هنا؟"
نظر اليّ وكأنه ينظر الى مجنون ثم وكانه فهم النكتة أجاب بهدوء: "غادر قبل خمس دقائق"
"وسيمون دي بوفوار، هل كانت معه؟"
"لم تأت اليوم"
"كامو؟"
"لا يأتي الى هنا منذ اختلف مع سارتر"
"جان جينيه؟"
"مع الفلسطينيين"
"وماذا عن ابن الحرام الفاشي ريمون آرون؟"
هزّ رأسه بعلامة النفي.
"هل أنت شيوعي؟" سألني باستغراب
"فقط في يوميّ الثلاثاء والخميس"
وأجلت النظر في بوليفار سان جيرمين، وعدت أسأل محاوري بنبرة احتقار "أهذه هي باريس اذاً؟"
"هذه هي باريس، لسوء الحظ" اجاب بسخرية.
يا للخيبة الكبرى، قلت لنفسي. وانا ارتشف القهوة واسحب نفساً من سيجارة الجيتان. ثم فجأة وكأن الشاب الذي قرأ كتاب "عيد متنقل" وأحب باريس من أجله، انتفض في داخلي "ألم تعد تعجبك باريس الآن، يا ابن ألـ؟"
ماذا أفعل، افسدتني الحياة في لندن، وعلى اكثر من صعيد!
Post A Comment: