...
"غضب وكنداكات" رواية للدكتور أمير تاج السر...
هي إحدى الروايات القليلة للدكتور أمير، والتي يمكن أن نعتبرها مباشرة بحيث أن العنوان يضع القارئ فوراً في أجواء أحداثها ومضمونها، ويعرف المتلقي من خلاله أنه قادم على الغوص في عمق أحداث الثورة السودانية المجيدة.
ولعل اللفتة المميزة في بداية الرواية، أن الغلاف والعنوان يمتزجان مع بعضهما ليضعا القارئ أمام حقيقة معاشة ألا وهي الدور الكبير الذي باتت المرأة عموماً والسودانية خاصة تلعبه على صعيد إحداث التغيير الايجابي في المجتمعات. مما يدعم  موقف د. أمير المعروف من المرأة وأهمية دورها في مختلف المجالات حتى الأكثرها صعوبة.
يتمنى د. أمير قبل البدء السردي للرواية أن يكون قد تمكّن من الإجابة عن سؤال (يتعلّق حتماً بالثورة السودانية)، مستبدلاً الإهداء بهذا التمنّي... وهذا طبيعي، فمثل هذه الرواية لا يمكن أن تُهدى لجهة معينة أو شعب بعينه، فهي تأريخ لحالة عامة ووضعٍ عام وتجربة عامة بدأت شعوبنا بخوضها في أكثر من مكان.
منذ الصفحة الأولى من الرواية نتعرّف على الشخصيّة الأساسية فيها  وهي خضر جابر أو "خج"..
شخصية قد تبدو اعتيادية بالنسبة للقارئ العربي الذي يجد نفسه أمام إحدى عناصر "المخابرات" المجنّدة خفيَة في جهاز الأمن الوطني، والتي تتغلغل بين الأفراد لتقصّي الأخبار ونقل المعلومات...
شخصية متداولة في مجتمعاتنا العربية، مكروهة، ومعروفة بفظاظتها ونقمتها على المجتمع والظروف والحياة كما هي الحال مع نموذج "اللعاق" الوارد في الرواية.
ولكن..
نتفاجأ مع "خج" أننا أمام تركيبة مختلفة تماماً.. فهو على الرغم من انقضاء فترة طويلة (ستة أشهر) على تجنيده لم يصدر عنه أيّ فعل قد يجعله مكروهاً أو يحمل إليه سمعة سيئة.. بل العكس من ذلك.
فمن خلال الحديث عن "خج" يظهر لنا إنساناً عادياً  متّزناً نوعاً ما.. فهو كحارس بوابة في المطار دؤوب في عمله،  ويبدو طيّب القلب أيضاً.. ويظهر ذلك من خلال شعوره بتأنيب الضمير واعتبار نفسه مسؤولاً عن الحادث الذي تعرّض له الموظف "عم ادريس" لمجرّد أنه تمنّى أن يصاب بسوء بسبب امتناعه عن انجاز المعاملة العقارية الخاصة بأخته الأرملة...هذا الشعور بوخز الضمير دفعه إلى عيادة "عم ادريس" في المستشفى بعد الحادث والعمل على تأمين متطلباته والوقوف إلى جانب ابنته.... بل وأكثر، عاد إلى أمنية سيئة تمناها بحق الثرّي العابر من بوابة المطار، محاولاً أن يشلّها بأمنية طيبة، خوفاً أن يحدث ما هو سيء مع الثري كما سبق وحصل ل"عم ادريس"..
هذه الأحداث العابرة في الرواية، لم تأتِ (برأيي) من فراغ ولا كان الهدف منها مجرد سردٍ عادي لاستكمال عناصر الرواية.. بل يبدو وجودها ضرورياً لمزيد من التعمّق في شخصيّة "خج" وفهم تردداتها النفسية المختلفة، ولإبعاد ذهن القارئ عن أية محاولة للتحامل عليها أو رَيّها بأية مشاعر سلبية.
إن بداية الفصل الثاني من الرواية تتجلّى ملفتة جداً، فهي بالإضافة إلى كونها تقديماً لأحداث وتطورات ستحدث في شخصيات الرواية، تحمل بين طيّاتها رسماً مختصراً لحياةٍ نعيش دقائقها وتفاجئنا بتحوّلات جذرية تغيّر مسار حياتنا أو اهتماماتنا أو حتى توقعاتنا عن الأشخاص والأشياء.. "التحوّلات تبدو مرعبة أحياناً.. أن تتحوّل الطقوس الناعمة فجأة من صفاء مخلص في شفافيته إلى حلكة، إلى موت.. أن تتحوّل الطقوس الناعمة للحب إلى طقوس وعرة...."
وكأنّها دعوة إلى عدم إعطاء الأمور والأفراد أحكاماً جامدة.. فكلّ شيء قابل للتحوّل والتبديل..
فكرة التحوّلات تبدو أساسيّة في الرواية، حيث أننا نتابع في الرواية كيف أن شخصيات بسيطة يمكن أن تتحوّل بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، إلى أخرى مختلفة تماماً .. ويساعد في كل تلك التغييرات السلبيّة عموماً، الفساد المستشري في البلاد والذي قد يدفع على سبيل المثال بفتاة بسيطة(ن.ت) تعيش بحيّ بسيط لتصبح امرأة ثريّة بوسائل مشبوهة، وقادرة على التأثير والتغيير في محيطها بدعم من المنظومة السياسية الفاسدة والقابضة على زمام الحكم والقرار..
تحوّلات تأتي دائماً في خدمة النظام، وتتبلور أكثر في الرواية عندما يُفاجأ القارئ بأن صا حب المقهى هو لواء أمن، وصانع الآيس كريم مقدّم أمن والنادلة الأثيوبية رقيب في جهاز الأمن وحتى عمّال النظافة والطباخ والمتسوّل والذباب وحتى الرمل المتطاير كلّها تابعة للأمن...
صورة مخيفة لواقع سياسي مرعب...
منظومة حاكمة يحيط بها الفساد من كل جانب، تسعى للسيطرة على خيرات البلاد والمتاجرة بموارده المادية والبشرية في سبيل ضمان مصالح شخصيّة والبقاء في سدّة الحكم على مدى طويل .. وكل من يرغب بالوصول وتحقيق النجاحات لا بدّ وأن يكون جزءاً من هذه المنظومة أو حتى خادماً لها فيحظى عندها بما يتمنى ويطمح.. "مؤكد أنه قريب أو نسيب للسلطة التي تحتكر الفوائد كلها حتى يسمح له بالثراء.."..
أما من يرفض هذا الواقع المزري فالويل له والثبور... لذلك ومن أجل ضمان الولاء الكامل ولو قسريّاً للسلطة، لا بدّ من اللجوء إلى مختلف وسائل الترهيب.. وتخويف المواطنين من إبداء أي اعتراض أو تذمّر من أبسط المسائل إلى أكثرها أهمية.. ومن هنا يأتي الدور الكبير لرجال الأمن في حماية هذه المنظومة السياسية والحفاظ على هيبتها المصطنعة..
والويل كل الويل لمن يتم التشكيك في ذمته "الولائية" للنظام ويقع في قبضة هؤلاء، والمصير معروف: "سجونٌ، مقاصل، كراسٍ ملغومة .. خسارةٌ لعنق ورأس وأحلام غالية.."
ومع تقدّم أحداث الرواية، نشعر وكأننا أمام رسم بيانيّ صاعد يوضح لنا شيئاً فشيئاً حقيقة الأوضاع والمشاكل التي تشبّع المجتمع منها وباتت عبئاً ثقيلاً على عاتق المواطنين، مما حمل إليهم رغبة عارمة بالتغيير تجلّت مع أخبار المظاهرات المتنقلة بين المناطق الرافضة للظلم والفساد والتي صارت مسألة ضاغطة على النظام، ومثيرة لمخاوفه... ومع تتبعنا للأحداث يظهر لنا تشدّد السلطة في التعامل مع المتظاهرين من استخدام للرصاص الحيّ عشوائياً إلى الغاز المسيل للدموع إلى الاعتقالات العشوائية... ومن ثمّ التعذيب الذي ينتظر أولئك في أقبية السجون المظلمة..
وفي خضم كل تلك الأحداث، تظهر لنا "هبة كسّار" المناضلة الرائعة والمحرّك الأساسي والفاعل في التحركات الشعبية المطلبيّة... الفتاة "هبة" البسيطة، التافهة نوعاً ما،  ذات الأظافر الطويلة والتي تغني بصوت بارد وغبي، وتعشق برات بيت ...
وهنا نعود إلى فكرة التحوّلات المركزية والتي تعتبر المحور الأساسي في مسيرة الرواية..تلك الفتاة يصيبها أيضاً سحر التحوّلات فتتبدّل من نموذج غبيّ ساذج إلى كنداكة حقيقية... امرأة قوية صلبة تقود الثوار وتملك من الأفكار الوطنية ما يجعلها في مقدمة الوطنيين الأحرار... وبناء على ذلك يصبح اسمها من أوائل المطلوبين من قبل أجهزة الأمن القمعية...
وبالعودة إلى "خج"، نتابع في الرواية محاولة تجنيده في جهاز الأمن والضغط الجسدي والمعنوي الذي تعرّض له في سبيل الانصياع والقبول بهذا الدور..
إن اختيار "خج" بالطبع لم يكن عشوائياً من قبل رجال الأمن، بل أتى بعد مراقبة وتدقيق ومتابعة من قبل عناصر أمنية سبق وتمّ تجنيدها "اللعاق" مثلاً... حيث يبدو أنه وفي هذا التوقيت الحرج للنظام ووسط التحركات الشعبية القوية والتي أخذت تتمدد إلى مختلف المناطق وتنادي بشعارات وطنية جريئة،كان لا بدّ من اختيار شخص مندمج في محيطه وموضع ثقة من الثوار والوطنيين، ليتمكن من التغلغل بينهم والاستقصاء عن كل ما قد يخدم النظام من أخبار وأحداث وتطورات...
ولكن "خج"، لم يكن على مستوى توقعات السلطة.ز فبالرغم من شخصيته التي بدت ضعيفة نوعاً ما ومخاوفه الكبيرة من السلطة وتردده إزاء موضوع الاستجابة لجهاز الأمن من عدمه.. نرى أنفسنا بشكل أو بآخر بحالة تعاطف مع شخصه...
والواقع أن القارئ للرواية، سيدخله رويداً رويداً شعور أن هذا الإنسان "خج"، لا يمثل شخصاً معيناً بقدر تمثيله لمجتمع بالكامل...
إنه المجتمع الخاضع لسياسات "تفقيرية" اجتماعية واقتصادية وسياسية، الواعي لحاله البائس ولكن الخائف من أي تغيير قد يحدث ويؤدي إلى نتائج غير محمودة مما قد يزيد من بؤس وصعوبة الأوضاع..
إنه صورة عن المجتمع الذي عانى الكثير من الظلم، ورأى بأمّ عينه الفساد يتكاثر، فانطوى على جراحه زمناً، وصمت دهراً... ثمّ، على حين ضياع، صحا من كبوته وأخذ قراراً بالحياة...
قد نعتب قليلاً على "خج"، لكننا لا نستطيع سوى أن نتعاطف معه، ونمضي إلى جانبه في مسيرة نضال ذاتي خفيّ، لم تتح له الظروف وسيلة لجعله علنياً... مما سبب له عداوة حتى مع أقرب الأشخاص إليه ومن بينهم الكنداكة العظيمة "هبة" والتي استشهدت في معرض مقاومتها للطغاة وصارت صورتها شعاراً يحمله الثوار ويمجدون ذكراها باعتبارها أحد المسببات الرئيسية لتحقيق انجازات مهمة في الثورة..
"غضب وكنداكات" ليست رواية عادية..
قد يظن القارئ أنه سيدخل إلى عالم الثورة السودانية من باب عرض الأحداث والوقائع، ليفاجأ بنفسه في زاوية مختلفة تماماً... وكأنه ينظر إلى الحالة السودانية العامة نظرة بانورامية شاملة تشمل وصفاً لأوضاع المجتمع البائسة، مروراً بالسراديب الحالكة للأقبية السياسية الفاسدة، وصولاً إلى التقاط صور لنبض الشارع وتحركاته التي تبدّلت بفعل التطورات من بسيطة ومتفرقة إلى قوية وحاشدة... وقادرة على التغيير..
"غضب وكنداكات" هي فعلاً رواية التغيير المرتقب بكل ما للكلمة من معنى...








Share To: