لستُ وحيداً، معي أحلامي ومُتمنياتي، معي هواجسي ومخاوفي.../ نَوْفَل وِسَامْ
*******
الباب السابع – طفل الشَّمس
خرج نَوْفَل وِسَام في وسط تسعينات القرن الماضي، لا يعرفُ هل كان ذلك خُروج أم هُروب، على مدرجات الجامعة كان العنف قويًّا، إما "مَعَ" أو "ضِدّ"، وما بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، المهم أنه مزَّق القماط، من المحظوظين، استيقظوا مبكرا، ربما لم ينَم، لم تطأ أرجله طائرة من قبل، يرافقهُ إلى مطار الدارالبيضاء والدته وأخوه البكر، حركة دؤوبة وضوضاء في صالة المغادرون بالمطار، ودَّع والدته وهي تذرفُ دموعاً حارة، غمس وجهه في صدرها وترك لدموعه كل المساحة، سبح في الماضي، توقف أمام بعض الذكريات، وهو طفل صغير لا يحبُ فراقها، يلتصقُ بها، يعانقُ ركبتيها خوفا من كل شيء، تساءل من جديد،
هل يمكن تخزين حنان أمه للسنوات القادمة؟
هو طفل الشَّمس والرمل الأحمر، يبكي في حضن أمِّه من حرارة الوداع، لا يعرفُ ما ينتظرهُ هناك، رائحة صابون حلاقة أخيه أعادت إليه وجه أبيه، الذي لم يكف منذ حصوله على الفيزا، من تكرار نفس الكلام:
لاَ تَعُد إلينا كما أنتَ تُحِبُ
بَل كما الحياة تريدُ
فلا تستمعُ إلى قلبكَ
بل أستمع إلى الواقع
وأينما كنتَ لا تنسى أنَّ لك حفنة بشر
ينتظرونَ منكَ الكثير
أن تُظهرَ لهم أن الحياة هُناك
حيثُ المدن الثلجية والأجسام البيضاء
أحسن من هُنَا
حيثُ الصفيح
وعمق الجُروح على الوُجوه...
وسيطيبُ لك كل شيء
طريقة حياتهم
شوارعهم
أدبهم
لغتهم
نسائهم
وكل شيء...
لكن، لا تَعُد إلينَا
كما أنتَ تُحِبُ.
استذرك نَوْفَل اللحظة بين مكبرات صوت المطار، صوتُ أمِّه يحرِّدُه على أن يكونَ شجاعاً ويأخذُ باله من كل شيء. انطلاقاً من هذه اللحظة لا حنين ولا رحيم بشري، لا من يُناديه كل صباح أن يستيقظ، يُهيأُ له وجبة الفطور، الشاي بالنعناع، زيت الزيتون وخبز البارحة، إذا كان محظوظا ربما جبنة "البقرة الضاحكة"، على كل حال ليس هو الأول أو الأخير الذي يُغادر البلاد. بلاد عطَّلتْ البحث عن أمراضها الكثيرة، تركتْ شبابها على أرصفة الطريق، يُنقبون في تلال القمامة عمَّا يُباع إذا اقتضى الأمر، الآباء يحاولون قتل الوقت بالمقاهي المُكتظَّة، أما الأمهات فهُنَّ في الطريق إلى أقرب جزار بالحي بحثاً عن بقايا العظام لطبخ حساء العدس أو الفَاصولياء، اللُّوبْيا حسب اللسان المغربي، على الأقل نكهة اللحم إذا قَصُرَ الجيب لشرائِه. الأيام يحرقُها التَشَرُّد والتَيَهَان، يلسعُها الفراغ المذهل، هناك عدو ربما أقوى من الموت، التسكّع.
اقترب نَوْفَل من آخر رجال الجمارك بالمطار، المحطة الرابعة للمراقبة، قدم له جواز سفره الأخضر الناصع قبل الدخول الى الطائرة، رجل متقدم السن، يرتدي بدلة زرقاء داكنة، أسنانُهُ الأمامية مطعَّمة بلون الذهب، تحسس الرجل من جرّاء روتينيات عمله اليومي أنَّ نَوْفَل في رحلته الأولى إلى أوروبا، بالضبط إلى ألمانيا، قال الجُمركي...
- ما هو هدف رحلتكَ؟
- الدراسة
- بأي مدينة بألمانيا؟
- كُولُونْيا
اقترب الجُمركي منه، نظر إليه بتركيز، وهو يعيدُ له جواز سفره الأخضر الجديد واسترسل قائلاً...
- "المَرَّة الجَّايَّه بَدَّلْ لُونْ دْياَلْ البَسْبُورْ"
دخل نوفل الممر المؤدي إلى الطائرة، كلمات الجُمركي تلتطمُ في حنجرته، هل فهمَ الكلام صحيحاً؟
"المرة القادمة يجبُ أن يكون بحوزته جواز سفر ذو لون آخر!"...
- يُتْبَعْ-
Post A Comment: