يتناول الروائي القطري أحمد عبد الملك في روايته، قضية حساسة جدا، وخطيرة تمس المجتمع العربي. فمن خلال بطلة روايته يلج في حكايته إلى نفسية المرأة العربية التي تعاني من عدة مشاكل، تجعل حياتها جحيما لا يطاق.
في الرواية يستخدم الروائي أسلوب الاسترجاع، والمونولوج الداخلي ليكشف لنا عن طبيعة الشخصية الرئيسية "حياة". الرواية تعتني بصوت المرأة التي تقص علينا الأحداث من وجهة نظرها، وتلعب فيه المرآة دورا لا يقل أهمية عن دور "حياة".
فمن هي "حياة"؟
امرأة من عائلة مستورة، مسها الفقر عدة سنوات، ولكن الوالد كان يحنو عليها، وتحظى بمعاملة مميزة منه. تزوجت مبكرا وكان عمرها خمسة عشر عاما، فهي لم تستطع أن ترفض الزواج، وهي الفتاة الحالمة والمتعلقة بقصص إحسان عبد القدوس، وأفلام وأغاني عبد الحليم وفيروز.
ولكنها بعد سنوات طويلة من الزواج، تقف أمام مرآتها لتعمل جرد حساب للسنوات السابقة، تقول: "بعد ثلاثين عاماً من زواج لا أستطيع أن أعتبره فاشلاً؛ لكنه لم يكن بمستوى طموحات وأحلامي الصغيرة". (1)
ومرآتها صديقتها الحميمة والمشاكسة، لا ترد دوما على أسئلتها الكثيرة والحائرة. وهي تمثل وجه الحقيقة المرّة بالنسبة إليها، فهي تظهر لها إنها لم تعد طفلة، وأن الزمن قد سار على جسدها، تقول لنفسها، وهي تحدق بالمرآة وتتحسس عنقها وصدرها:"ألاحظ ُ خربشات الزمن تحت جفوني، دهس الأيام لصدري. أنا حياة!! حياة الجميلة الحبوبة تتعدى اليوم الأربعين!!". (ص 8)
تحس بالمرارة، والحنق على الأيام التي تركض بسرعة، وهي ما زالت عطشى للحب، لذا تحاول هزيمة الزمن من خلال عمليات التجميل لعلها تحتفظ بالنضارة والحيوية، والفتنة، ويأخذها الفكر إلى الأيام الأولى للزواج، حيث جذوة الحب دائمة الاشتعال، وجنون المداعبات يثير فضول الليل الذي يبقى ساهرا يتعلم فنون الحب.
والأيام الجميلة لا تعود أبدا، ولا تملك حاليا سوى وساوس وأوهام، وأشباح ترافقها في بيتها، وأفكار جنونية تجعلها أمام المرآة امرأة مختلفة، فهي تسأل شفتيها :"كم من المرات قبّلها ناصر؟؟ هل قبّلها شخص غيره؟؟". (ص9)
وكأنها تتمنى رجلا يروي ضمأ الشفتين المتشققتين، فمنذ أياما طويلة لم تمسهما شفتي زوجها ناصر.
هي امرأة في سن اليأس، زوجها يتجنبها، ويشعر بالضجر بقربها، وهي تحب السهر والرقص والملابس الفاضحة والسفر في محاولة لإثبات إنها ما زالت مرغوبة، فما زالت فتنتها ظاهرة، وتثير شهية الرجال.
بدأت علاقتها في زوجها ينتابها الشك والارتياب منذ الأيام الأولى للزواج بعد أن حصلت على شريط فديو يظهر زوجها يطارد فتاة أجنبية بارعة الجمال، وكان الشريط حيلة من صديق له، ليتقرب منها ويقطف من ثمارها اليانعة. ولأن حياة امرأة قوية وصلبة ولا تعرف الخسارة، فقد بحثت عن الفتاة حتى وجدتها، وذهبت إلى بيتها وهددتها إذ هي اقتربت من زوجها ثانية.
وتسببت الحادثة، وتفتيشها لأغراض زوجها أن صار أكثر حذرا وريبة منها، ومشى - حسب رأيها- على العجين دون أن (يلخبطه)، ولكن الوساوس لم تفارقها منذ ذاك الحين، ففي النهاية ذنب الكلب لايستقيم .
فظلت تسأل المرآة طوال ثلاثين عاما إذا كان زوجها متزوجا من أخرى، ولكن المرآة لا تجيب، وتبقى صامتة، وكأنها تتآمر عليها "تباً لهذه المرآة الصامدة كقالب ثلج!! يالبرودتها وصمتها القاتل. يا لجُبنها وقت حاجتي لحديثها الرائع!!". (ص 10)
تشعر "حياة" بالبرودة في أيامها، وقد أدمنت خيبات الأمل والانتظار المقيت، وأبيضت عينيها من كثرة ترقب ما لايأتي أو ما سيأتي. تنتابها حالات تود فيها لو تحطم هذه المرآة التي لا تشاركها همومها وهواجسها، تقع عينها على صورة ناصر يبتسم، فتتساءل: أحقاً لازلت أحب هذا الرجل؟ وهل سأواصل طريقي آملة إسعاده، وهو في رحلة دائمة بعيداً عني وعن شؤوني الصغيرة؟
وعلى الرغم من إنها امرأة متعلمة ومثقفة، وتعمل مدرسة إلا إنها ما زالت تقصد العرافات وادمنت قراءة الفناجين، وكل القراءات كانت تشير إلى وجود نساء في حياة ناصر، وأنه صاحب عيون زائغة.
تحاصرها الأسئلة، وتهجم عليها كوحش ينهش عقلها، أيكون مع زوجته الجديدة؟ "أيكون مع عشيقة جديدة يضحك ويرقص ويحتضن؛ ويبثها الكلمات المنمقة والشوق المرهف الذي يبخل به عليّ؟". (ص10)
وتطاردها أحاديث المعلمات عن زوجها ومغامراته النسائية، فتصل البيت كالمخبولة تفتيش في حاجاته لعلها تعثر على ما يدينه. تشعر بالضياع والتيه كلما دعته إلى أحضانها ولا تجد غير النفور والعيون الزائغة التي تأخذه بعيداً عنها وعن اللحظة الوردية. يسكنها الشك ويقلب حياتها نارا تحرقها، ولا يعد لها هما سوى معرفة من تكون المرأة الجديدة، أو النساء في حياته.
تأخذها الأفكار إلى أيام خطبتها، واحتفالها برسائل خطيبها، وتعود لتنظر إلى الدرج الذي يحتويها وكأنه تابوت، فهي اهملتها ولم تعد تنظر إلها نظرة عطف منذ زمن طويل.
العلاقة بينهما مملة وباردة كقالب ثلج، وهي تحاول أن تنسى، وتشغل نفسها بأمور أخرى مطاردة سعادة لن تصل إليها.
من خلال ما سبق نلاحظ إن "حياة" المعلمة تحمل أفكارا لا عقلانية، وتسيطر عليها العاطفة الذاتية في سعيها إلى تحسين شروط حياتها.
وتنطبق عليها النظرية العقلانية-العاطفية التي وضعها عالم النفس ألبرت إليس في منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
وتركز النظرية على الجانب السلوكي والعقلي، فالتفكير والانفعال والسلوك تختلط مع بعضها البعض. فالسلوك الإنساني في موقف ما، عادة ما يكون خليطا من العقلانية و اللاعقلانية.
فالإنسان يسلك في مواقف الحياة المتنوعة حسب ما يظن ويدرك نحو المواقف التي يتعرض لها.
ولهذا فأن ما ينتج عن الاضطراب في الإدراك هو اضطراب في الانفعالات، وبالتالي فأن التفكير والانفعال عمليتان مختلطتان، "فالتفكير يتكون من عناصر غير ذاتية، وهو موقف يتميز بالاتحيزية، أما الانفعال فهو موقف تحيزي تغلب عليه الذاتية في إدراك الأمور". (2)
وإليس يرى أن ما هو عقلاني يمكن أن يتحول إلى انفعالي، وكذا الانفعالات يمكن أن تصبح فكرا تحت ظروف معينة.
والأساس في النظرية قائم على أن سلوك الفرد الانفعالي "ينتج عن حواره الداخلي، فيما يتولد داخليا من أفكار في وجدان الفرد حول موضوع معين، هو الذي يكون مادة انفعالاته نحو هذا الموضوع، فالفرد يفكر بكلمات وجمل ذاتية، وما يحويه الفرد لنفسه أثناء هذا الحوار الذاتي من مدراكات وتصورات هو الذي يكوّن انفعالاته الخاصة، ويشكل سلوكه في الموقف". (3)
حياة صاخبة
والبحث عن الذات
تهرب "حياة" من حياتها الرتيبة إلى حفلات السهر والرقص، وتشعر بنفسها هناك مرغوبة، فرقصها المميز وتفننها في حركاتها الرشيقة كان يثير مديح صديقاتها، ويحسسها بالانتشاء والرغبة. وعندما تنتهي السهرة ترجع لواقعها الأليم في بيت ساكن وصامت، وزوج ينظر إليها باحتقار ونفور من مكياج مبالغ فيه، ولباس فاضح. لا يناقشها ويكتفي بالعودة إلى مكتبه الصغير ليقوم بعمله، فهو يكاد يكون دون أصدقاء.
وتخبرنا إن حياتهما كانت رائعة ومثيرة في أيام دراسته في الخارج، لأنها كانت ترافقه، وكان ناصر يملك طموحات كبيرة وعظيمة، ويجتهد في دراسته من أجل العودة إلى الوطن لينفذ مشاريعه التي بدأت تختمر في عقله، وكانت لديه أفكار تنويرية رائعة. كل ذلك تبخر واندثر بعد العودة إلى الوطن، وهو يرى أحلامه تتحطم على صخرة الجهل والفساد، وهنا نرى إن المكان (الوطن) الذي أحبه ناصر، وسعى إلى نهل العلم ليساهم في تقدمه، تحول إلى جحيم بالنسبة له، ومقبرة لأحلامه التي لم تر النور، إن ناصر الذي لم يقاوم جبروت المكان، الذي وضع القيود على حريته، وبالتالي شعر بالوهن أمامه، ففي صراع الإنسان مع المكان أما أن يفرض وجوده فيه، أو يضعف ويسلبه المكان بما فيه من عوائق حريته، "فكلما شعر الإنسان بالاتساع شعر بالحرية والقدرة على التحرك والعمل والانطلاق، وكلما شعر بالضيق والازدحام شعر بالعجز والضعف وعدم القدرة على الحركة". (4)
ونتيجة لإغلاق الأبواب والنوافذ أمام تحقيق أحلامه، فأنه أصبح منعزلا اجتماعيا، وغرق في تجارته الصغيرة، أما "حياة" فقد قابلت هذا الانسحاب بكثرة الخروج والسهر، والانخراط في الحفلات الصاخبة.
ولجأت حياة للتخلص من أوهامها وكوابيسها إلى طرق الدجل والشعوذة، ثم استعانت بأدعية أعطتها إياها أختها على أمل التخلص من رؤية الأشباح والأطياف التي تتنقل في البيت، إلا أنها لا تغيب وتبقى تتراقص أمامها.
تعاني أوجاعا نفسية، وحتى زوجها انتبه للأمر، وطالبها بالذهاب إلى طبيب نفسي بعد أن عاد يوما متأخرا، فأخذت تتشمم ملابسه لعلها تعثر على بقايا رائحة نسائية، وتمطره بالأسئلة مما ازعجه وخاصمها طويلا. وعادت إلى السرير البارد وهو اللفظ الذي يتكرر ليعبر عن وحدتها ووحشة السرير الذي يعد مكانا دافئا وحميميا في الأوضاع الطبيعية، إن السرير بوصفه مكانا خصوصيا يجد فيه الإنسان الراحة والرضا، ويمارس فيه علاقاته الجنسية لا وجود له في أيام "حياة"، فالسرير الذي يفترض أن تقع فيه أحداث من قبل الشخصيات ويؤثر فيها وتؤثر فيه، كان تأثيره سلبيا فهو بدلا من أن يكون دافئا وحنونا، أصبح باردا ومتوحشا بنظر الزوجين اللذين أطفأت مرارة الحياة نور أحلامهما. وارتبط المكان عند الروائي أحمد عبد الملك "ارتباطا وثيقا بوعي الإنسان واحساسه، ويعكس ما تعانيه الشخصية من قلق وحسرة وخيبة ومعاناة". (5) فالسرير والبيت قاتمان، وحتى عندما سافر الزوجين إلى الخارج كانت غرفة الفندق وسريرها يمثلان السواد والبرودة، فالمكان في حياتهما كان مرآة كشفت مشاعر الشخصيات وأفكارهم ومخاوفهم.
وفي عمليات الحساب الذاتي، كانت "حياة" تتساءل: هل أنا حقا بحاجة لطبيب نفسي؟ فهي امرأة مترددة، تفر من مشاكلها الواقعية إلى عالم موازي مزركش في النوادي الليلية.
وإذا كان زوجها لا يمنعها من الخروج ليلا إلا إنه من خلال نظراته القاسية، وصمته المطبق يعبر عن إزدرائه لها ولما تفعل، لقد تباعدا "إلى درجة نسي كلانا ملامح الآخر". (ص 12) وكانت هي تقابل تصرفاته بالمزيد من السهرات.
انتهت حياتهما بأن كلاهما يخرج من البيت منفردا ولا يعود إلا بعد منتصف الليل.
يثير جنونها لا مبالاته من لباسها الفاضح، وعدم إبداع أي إشارة عن غيرته!
إنه لا يضجر ولا يتأفف كثيراً، وحاولت هي أن تعامله بالمثل وتهمله، ولكنها ترجع عن قرارها، فعندما تكون سهرانة في الخارج تبقى تتصل في البيت للتتأكد أن الخط غير مشغول، وإذا كان مشغولا فإنها تستمر بالاتصال دون توقف حتى تحرجه ويغلق الخط. ولا تكتفي بذلك بل ترسل له رسالة من خلال الهاتف تخبره إنها اشتاقت له! وتمارس نفس اللعبة وهو خارج البيت أيضا. وتقنع نفسها إنها قد تحصل على معلومات منه وهو في حالة سكر وانتشاء، وعندما تعجز عن إيجاد دليل يدينه، فإنها تبرر الأمر بأنه ذكي وحذر.
أكثر ما أوجعها إنها في أحد الأيام تزينت وتعطرت ولبست ملابس خفيفة ومثيرة، وجلست إلى جانبها تحاول إغوائه إلا أنه استمر بقراءة كتاب يحمله ولم يعرها حتى التفاتة، فشعرت بالانكسار والذل وأخذت تتمتم بكلمات شنيعة، مسحت ميكياجها، وأندست في السرير معطية ظهرها لها، وهو يستمر بالقراءة حتى يغفو. وتقول: "لايتحرك فيه شيء. يواصل القراءة حتى ساعة أو ساعتين. يطفئ الأنوار ويموت". (ص 13)
وحتى نفهم زلة اللسان هذه علينا أن نعود إلى التحليل النفسي، فأكبر انجازات فرويد مفاهيمه حول اللاشعور ومستويات الشعور. ففي الفترة التي كان فيها علم النفس يقتصر على دراسة الشعور وذلك عن طريق "إدراك الأشياء وإرجاعها إلى عناصرها الأصلية والاهتمام بخبرة الفرد عندما يحتك ببيئته... وصف اللاشعور بأنه موضوع غير قابل للنقد أو التحليل العلمي". (6)
رأى فرويد أن اللاشعور جزء لا يتجزأ من الشخصية لا مفر من دراسته وأن الجوانب ذات الأهمية الفعلية والمؤثرة في سلوك الفرد، تتواجد داخل عالم الشخصية غير المعروفة. ولذلك يجب الكشف عن عالم اللاشعور إذا أردنا أن نفهم الإنسان.
ووعي الإنسان بالمشاعر والأفكار والذكريات، يقع على ثلاثة مستويات، وهي: الشعور، ويعني الوعي والاتصال بالعالم الخارجي، ويتكون من القليل من خبرات الإنسان. والجزء الأكبر من الخبرات يوجد تحت سطح الوعي.
وما قبل الشعور ونقصد الخبرات والأحداث والذكريات المدفونة تحت الوعي، ويمكن استدعاءها بجهد بسيط، مثل مكالمة هاتفية سابقة.
وأخيرا اللاشعور وهو المستوى الرئيسي الذي يضم معظم الخبرات والتجارب، والتي يختزنها الإنسان في العمق، ولا يمكن استحضارها بسهولة، مثل آلام الطفولة المنسية، والمشاعر العدوانية نحو أحد الوالدين. ولكن يمكن أن تظهر هذه الخبرات والتجارب المؤلمة من خلال الأحلام وزلات اللسان، والتداعي الحر.
واهتم فرويد باللاشعور جدا حتى أنه صوره بجبل جليدي تحت سطح الماء عبر كتاباته.
فالتعبير المستخدم من قبل الزوجة لا ينم عن محبة أو مودة ولو قليلة، بل رغبة دفينة في اللاشعور تتمنى لو تطفىء الأنوار، وتجد زوجها وقد مات، فتتحرر من قيوده ومن قيود المجتمع، فذكرياتها المؤلمة الموغلة في القدم والتي تعود إلى مرحلة الطفولة، تظهر أب كان يعاملها برفق وحنان، إلا أنه كان يرجع إلى البيت بعد منتصف الليل سكرانا بعد أن يشبع رغباته الجنسية مع بنات الهوى، ويبدأ صوته الخشن بالصراخ والشتيمة على والدتها، وينهال ضربا عنيفا على جسدها الضعيف، ويتركها تئن من الألم والضياع، ولا شك إن "حياة" الفتاة المتعلقة بأمها في سنواتها الأولى بقيت تختزن هذه الذكريات، وأسقطت شخصية والدها على زوجها، وهي لا تكف عن الشك فيه، وأن لها مغامراته مع النساء في سهراته الليلية.
ولكنها تعود لتلوم نفسها، فزوجها يرى كل يوم النساء اليافعات النغشات الممشوقات القوام، بينما هي فامرأة تقدر وزنها بأكثر من ثمانين كيلو. فتبدأ في إيجاد حلول لترهل جسدها، وسمنتها، تلجأ إلى الرجيم ومن ثم إلى العمليات الجراحية.
تستمر علاقتهما بالانحدار، وحتى حاجات المنزل شرعت تكتبها له على ورقة وتضعها على طاولته. هي تشعر نحوه بالحياد، ولا تدري أتحبه أم لا؟
وأخذت تسقط ما تعاني منه عليه، فتقول عنه إن كل المشاكل بسبب عصبيته التي هي بالتأكيد مرض أصابه أو أنه أصبح يكرهني. فهي تفعل كل ما يثير غضبه وحنقه ثم تطالبه بالالتفات إلى أنوثتها، والثناء عليها كما يفعل الناس؟
وفي لحظات صفائها، تفكر بزواجها الذي مضى عليه ثلاثون عاماً، وما هو مصيره؟
فالرجل إذا انطفئت جذوة حبه لها، كان قادرا على تركها والزواج بأخرى، وتتساءل لماذا يتحمل كل غباءاتي وحماقاتي معه؟ تعترف بهذه اللحظات بتقصيرها اتجاهه، وأنه بقي إلى جانبها رغم كل مصاعبه ومشاجراتها التي لا معنى لها، وإنه بعد ثلاثين سنة من التلصص على المكالمات الهاتفية له، وتفتيش أغراضه لم تعثر على ما يدينه، فهل الحقيقة التي تبحث عنها غير موجودة؟
ولكنها تعود إلى وساوسها وتلقي بأفكارها العقلانية في سلة المهملات.
ومع مرور الأيام تزداد الخلافات، والنفور من بعضهم البعض، وكان لتصرفه في أحد الأيام حيث ارتدت فستان أحمر قصير شفاف جدا ومغري، ودنت منه حتى سمعت أنفاسه، وامسكت بيده ولكنه استمر في مشاهدة التلفاز وكأن شيئا لم يكن، ضاربا باحتياج زوجته الأربعينية عرض الحائط، أحست بأنها طعنت بسكين، وإن جسدها أصبح كقالب الثلج، وإنها صغرت أمامه كحشرة عرجاء فصلَ رجلها مخلبُ كاسر. سحبت يدها من يده. وابتعدت وهي تحاول لملمة شتاتها وانكسارها.
في السرير الثلجي الذي فقد بريقه ودفئه، طفقت تبكي بحرارة، وبدا إن الغرفة وكل ما فيها من أشياء تبكي لبكائها، جلسن أمام المرأة، وسألتها لماذا يفعل ناصر ذلك؟ ولكن المرآة كالعادة جبانة ولا تجرأ على الإجابة، قتقول لنفسها: "هكذا يصنعون لنا مرايا صامتة. مرايا لا نرى فيها غير وجوهنا!!". (ص 16)
ولأن طبيعة عمل زوجها تتطلب السفر كثيرا، فأنها شغفت بالسفر لا من أجل المتعة بل ليبقى ناصر تحت سمعها وبصرها!
فالأشخاص الذين يعانون بقوة وبجرعات شديدة من القلق يصبحون "عاجزون عن التعامل مع أنفسهم ومع مجتمعهم وبيئتهم الطبيعية. فهم يفتقدون التأثير في الحب وفي العمل. إن القلق يلعب دورا تحذيريا للأنا كنوع من التهديد بالخطر، ويزداد هذا الدور إذا كانت الذات ضعيفة عنها لو كانت قوية". (7)
وهذا لأن الذات المتماسكة والقوية، لديها القدرة العالية على التعامل مع المواقف المختلفة بكفاءة، ولكن ليس دائما يستطيع الإنسان حتى لو امتلك ذاتا قوية وفاعلة على التعامل بمنطق وعقل مع صعوبات الحياة.
وعندما نستعمل طرقا غير منطقية وعقلانية في تعاملنا مع بيئتنا المحيطة، ومع مشاعرنا ودوافعنا، فأننا نستعمل أسلوب الحيل الدفاعية. "وهي وسائل لا شعورية لا يدركها الفرد شعوريا ولكنها تهدف إلى رفع بعض الضغوط التي تتعرض لها الأنا أو الذات وبالتالي تخفيف حدة التوتر والقلق". (8)
فتمارس "حياة" حيلة التبرير، والتبرير هو تقديم تفسيرات معقولة "وشرح لفشل أو خسارة، ويبرر هذا الشرح سلوكيات معينة ويساعد في تسهيل قبول الضربات الموجهة للذات، وهو نوع من الكذب للدفاع عن النفس". (9)
فهي تبرر لنفسها مراقبة زوجها وإحصاء أنفاسها، والعبث في أغراضه، لأنه قد يكون متزوجا من أخرى، فالرجال عيونهم ماكرة، ودائما ما يتطلعون إلى أجساد الفتيات المغرية بشهوانية، ويتركون زوجاتهم وحيدات ومهجروات ومتعطشات إلى حنانهم المسكوب على صدور العشيقات. وتنتقد بشدة نساء خلجيات في حديقة الهايد بارك لأنهن مبالغات في تزينهن باللباس ورائحة العطور وبريق الألماس. وكانت شاهدت بعض النساء يخلعن نقابهن في الطائرة ويطلقن العنان لنهودهن أن ترتع وتتنفس بحرية. "كن يضعن نظارات ملونة على الموضة وكان الجينز يضغط على أجسادهن بقسوة بحيث يشعرنك باحتمال تفجر البنطلونات التي تحاصرهن". (ص 17) وفي العودة إلى الأحداث الماضية سنجد "حياة" تبالغ في زينتها، وتبرز نهديها كي يطلا كأرنبين من تحت القميص، وتلبس الجنيز الضيق الذي يرسم مؤخرتها بدقة!
وفي الحديقة يثيرها رؤية جسدان ملتحمات على العشب في الهواء الطلق، قائلة لنفسها: "يالبختهما قد لاتكون لديهما شقة ولا يملكان ثمن غرفة في فندق الخمسة نجوم ؛ ولكن لديهما الحب. لديهما التواصل والاحساس والقدرة على التعايش الايجابي البسيط . نحن في القصور وفي (سويتات) فنادق الخمسة نجوم وليس لدينا فرصة لقبلة أو نظرة صادقة!!". (ص 18)
فهي التي تنتقد أفراد المجتمع، تغوص بما تنهى عنه، وكأنها تعيش في انفصام شخصية، فشخصيتها مهزوزة ودائمة الشكوى وغير قادرة على حل مشاكلها، لذا عندما ترى عجوزا تطعم الحمام خبزا، ترجع إلى الماضي، مستخدمة آلية النكوص لتتذكر والدتها التي كانت ملاذها وحصنها الآمن، والحضن الدافىء والحنان الذي لا ينضب، تتذكرها وهي توصيها بزوجها خيرا.
وهنا يعيد الروائي إضاءته على الشخصية الرئيسية في روايته، ليبين لنا أسباب هذه الاضطرابات، والتصرفات الهوجاء، وعمليات الهروب من واقع مزري إلى عوالم زاهية مليئة بالمتعة. ويستخدم المؤلف صوت "حياة" لتخبرنا عن طفولتها الصعبة، وكأنها أراد للقارىء أن يحس بأن الأحداث حقيقة، ويثير تعاطفه مع شخصية "حياة" السيكوباتية. تقول مستحضرة صورة أمها:
"داهمتني صورتها وهي تحت قدمي والدي وهو يضربها بعنف ويجهز عليها وكأنه يريد قتلها. كنت في الرابعة من عمري. وكان والدي قد حضر من سهرته الرجالية "الرجولية" !! لم تكن والدتي قد أعدت طعامه الفاخر على نحو مايريد. ضربها حتى أدمت وتركها إلى الغرفة الثانية . تسللتُ من خلال فتحة الباب الواهن وألقيت بجسدي فوقها باكية. كانت تلك الصورة المؤلمة للانثى محفزاً لي لأتخذ موقفاً من الذكر رغم استحضاري لمواقف الحنان التي كانت تصدر من والدي تجاهي!!". (ص 19)
فوالدها الذي كان يدللها دون أخواتها لم يستطع أن ينزع صورة الوحش الذي يلتهم أمها من فكرها، وبقيت هذه الصورة معها طوال حياتها.
فالأب هو الذكر الذي لا يعرف في معاملته مع الأنثى سوى القوة والقسوة، لذا في كل موقف مؤلم مع ناصر، كانت صورة والدها يعتدي على أمها الحبيبة تترأى لها، "كان والدي نفسه مستشرساً في جسد ناصرعند هيجانه وصراخه غير المبرر". (ص 19).
إن "حياة" صاحبة شخصية قوية وشرسة في الظاهر، ولكنها تخفي خلف هذه القسوة أنثى متعطشة للحب والحنان الذي لم تحصل عليه إلا لسنوات قليلة في حضن أمها. فالوالد الذي يقيم علاقات كثيرة مع النساء ولا يعود إلى البيت إلا في آخر الليل ليقوم بواجبه المقدس في ضرب أمها دون سبب، هو الإطار الكبير للذكورة الذي يحتوي زوجها ناصر، وهي صورة مستنسخة من والدتها. لذا كانت صورة الزوجة الثانية أو العشيقات لا تكف تقلق مضجعها، وتحرك في فكرها الهواجس والظنون.
لايشعر ناصر بحالة زوجته، فهو غارق في قراءة الجريدة، يكتفي بنظرة خاطفة إليها، ويعود إلى سطور الجريدة. لم يعاشرها منذ أسبوع! مع أنه لم يفارقها لحظة خلاله. إن شخصية ناصر يحتلها الاغتراب، فبعد أن صده الوطن عن تحقيق ما يصبو إليه، اعتزل الجميع، واختار أن يقضي جل وقته في مكتبه الصغير داخل البيت، فناصر لا يعي اغترابه رغم ما يشعر به من معاناة وألم، وتتصف شخصيته "بحس الاسترخاء في همها الشخصي أو أوهامها الذاتية، ولذلك تغفل عما يحيط بها، وتفتقد المسافة اللازمة لتأمل آلامها من أجل الخروج بحل لها أو الوقوف على أسباب اغترابها". (10) أو تقف لتفكر بحالها لتتعرف على نفسها.
و"حياة" تتلاعب بها الهواجس، ألا يحتاج إلى إشباع حاجاته الغريزية؟ هل يكتفي بالتحديق في الاجساد الثائرة المترجرجة وتمني لمسها في الهواء؟ لا بد إن هناك زوجة أخرى، أشعر بهذه الحقيقة تتشكل أمامي.
ينهضا عن مقعدهما في الحديقة، ويسيران صوب الفندق يحفهما صمت القبور.
لا تستطيع التخلص من أيامها الباردة التي تمضي دون عودة، فإذا كانت تشعر إن سريرها في البيت، وهو المكان الذي يرتاح فيه الإنسان، ويحس بالطمأنينة والسكينة لم يكن أكثر من قالب ثلج، فإن غرفة الفندق لم تكن أحسن حالا فهي باردة ومتحجرة. هو يتابع التلفاز، وهي لا تهدأ أو تستكين تبقى في حالة قلق وحركة دائبة في الغرفة، مما يزعجه ويصرخ فيها، وهي كانت تحاول استفزازه، لتلقي عليه قنبلتها الموقوته، هل أنت متزوج؟
رمي بمؤشر التليفاز نحو الجدار فتناثر، وقف في مواجهتها، وأخذ يوبخها.
وتستمر حياتهما الفارغة من الدفء والثقة.
وتقع الكثير من الأحداث الدرامية التي تعجل بانهيار العائلة، فناصر يبدأ يسمع من الخادمة عن خيانة زوجته، وهي ما زالت تفتش في أغراضه بحثا عن دليل يدينه، وفي الاثناء يخسرا أحد أولادهما الذي اتجه إلى الانتماء لحركة دينية متطرفة.
العلاقة الفاترة بينهما وعدم التواصل، تزرع في نفس ناصر الريبة من زوجته، وأنها ولا شك خانته، وخصوصا إنها لا تكف عن السهر ليلا خارج المنزل، فيتعرض لها بالضرب المبرح دون أن يعطيها الفرصة للدفاع عن نفسها.
وتصل أحداث الرواية إلى الذروة الدرامية بإصابة حياة بمرض خطير بقلبها، مما يستدعي وقوف ناصر إلى جانبها، وسفرهما إلى لندن لتتلقى العلاج.
وهناك تتعرف حياة على زوجها من جديد، وتكتشف فيه الزوج المثالي والحنون، ففي المطعم الرومانسي الذي أخذها عليه للعشاء، تقول: "طوّق ناصر خصري". (ص 208) وتصبح ترى الأشياء بشكل مختلف، فبعد أن كانت السوداوية تسيطر عليها، وترى كل شيء صامت صمت القبور، ومغلف بالسواد، فإنها رأت المطعم وكأنه صمم لشخصين، وكل شيء فيه يتواطىء ليثير سعادتهما، تقول: "استشعرت الشمعة حضورنا فتمايلت ذؤابتها يمينا وشمالا". (ص 208)
وناصر مبتهج، ولا يتوقف عن التغزل فيها، ويكيل المديح لوجهها الجميل "حفّزني بعبارات رومانسية، كنت أشعر بأنني أجمل امرأة بالدنيا. نبضات قلبي كانت الشيء الجديد في السهرة. ازدادت النبضات، خصوصا بعدما ضغط ناصر على أصابعي. كان وجه ناصر مغريا جدا. كان شعاع الشمعة يرتسم على خديه فيوردهما". (ص 208) وابتسامته كانت ساحرة، وأثناء جلوسهما على الطاولة، كانت يد ناصر "تتسلل من تحت الطاولة لتلامس فخذي. أف. ألهذا الحد يتشوق الرجل إلى جسدي؟ شعرت برعشة طال انتظارها!". (ص 209)
وتعنف حياة نفسها، إنها أضاعت حياتها في النكد والخصام، حتى مرت السنوات دون أن تغرف من نبع حنان ناصر، "كانت يد ناصر تضغط على خاصرتي من تحت الجاكيت، تذكرت، إنها المرة الثانية في حياتي التي يطوقني ناصر بيديه بعد المرة الأولى التي كنا فيها في شهر العسل، قبل خمسة وعشرين عاما". (ص 210) وتقول لنفسها بحسرة: نحن "لا نعرف قيمة الآخرين إلا بعد فوات الآوان". (ص 214)
قضت حياة سنوات عمرها الفتي في شكوك وظنون اتجاه زوجها، ولم تكن قادرة على مواجهة هواجسها مع ناصر، الذي بدوره هاجمه الارتياب اتجاهها، ولكنهما فشلا في إيجاد نقطة يلتقيا فيها، ويواجها مخاوفهما معا.
عند العودة إلى الوطن بعد إجراءها عملية صعبة، تتغير حياتها من اللون الأسود إلى ألوان شتى، تقبل على الحياة بنفسية جديدة، تقول: "عشت مع ناصر أجمل أيام حياتي. عادت إلينا ليالي الدفء التي غادرتنا منذ عشرين عاما. صبغت غرفة نومي بلون آخر. غيرت غرفة النوم كلها". (ص 214)
كانت تبحث عن حياة جديدة بعد اجتيازها العملية، وقد عقدت العزم على تغيير حياتها، وبذل ما تستطيع لتحقيق السعادة والرضا لزوجها وأولادها اللذين نسيتهم في خضم المخاوف الوسواسية، ولكن الزمن لا يسعفها، فتموت وفي قلبها غصة.
أما ناصر فحقق نجاحات كبيرة في عمله، فهو هرب من ضغوط زوجته والحياة إلى العمل الدؤوب لتحقيق أحلامه. ويعرف بعد فوات الآوان إن زوجته لم تخنه قط. يموت ناصر أيضا، ويكتشف الأولاد مفكرة والدهم الحمراء، ويعرفوا من خلالها مدى حب والدهم لأمهم، التي وضعت بعض ذكرياتها على شرائط تظهر حبها لناصر، وشكوكها أيضا.
يرى ألبيرت إليس أن الإنسان يسعى لتحقيق غايتين رئيسيتين، أولهما "المحافظة على الحياة، والثانية: الإحساس بالسعادة النسبية والتحرر من الألم وأن العقلانية في التفكير تكون بطرق تسهم في تحقيق هذين الهدفين، وأن اللاعقلانية تشمل التفكير بطرق تقف حاجزا في سبيل تحقيقها، وبذلك فأن العقلانية هي استخدام المنطق في تحقيق الأهداف القريبة والبعيدة". (11)
وإن الإنسان عندما ينفعل فأنه يفكر ويفعل، وعندما يفعل فأنه يفكر وينفعل، وعندما يفكر فأنه ينفعل ويفعل. ويقدم إليس مجموعة من الافتراضات حول طبيعة البشر والاضطرابات التي يصابون بها. فحسب رأيه فأن "التفكير والانفعال جانبان لزاوية واحدة، وكلاهما يصاحب الآخر في التأثير والتأثر". (12)
والإنسان عقلاني ولا عقلاني معا، فأذا فكر وتصرف بطريقة لا عقلانية فأنه يحس ويشعر بالقلق والخوف ويكون محبطا وتعيسا. ويولد التفكير غير العقلاني نتيجة التعلم "منذ سن مبكرة لدى الطفل من الأسرة وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه". (13)
وبما أن الإنسان كائن حي لفظي، فأن التفكير اللاعقلاني "سوف يستمر لدى الإنسان عن طريق تكرار العبارات الهازمة للذات". (ص 14) وإن الاضطراب النفسي لا ينتج بالضرورة عن الأحداث الخارجية، ولكن طريقة تفكيرنا والمعتقدات التي نتبناها اتجاه الأحداث هي المسئولة عن الاضطرابات التي نعاني منها. كما أن تأنيب النفس دائما، يسبب الاضطرابات النفسية. كان على حياة لتنجح في حياتها أن تتوقف عن لوم نفسها، وعن لوم زوجها والآخرين، كي تتخلص من الاضطرابات. كان عليها أن تعزل تقيمها لسلوكها عن تقييمها لذاتها، وتتقبل نفسها كما هي بما فيها من عيوب، وأن تبتعد عن الادعاء بالكمال، كان عليها أن تتقبل زوجها وتراعي ما يتعرض له من ضغوط هو الآخر.
إن فكرة كون الأحداث والخبرات السابقة تقرر سلوكنا الحاضر، وأن تأثير الماضي لا يمكن استبعاده أو محوه تصرفات لا عقلانية، ولكن العقلاني يقول لنفسه "إن ما حدث في الماضي وكان ضروريا في ظروف معينة قد لا يكون ضروريا في الوقت الحاضر وأنه لابد من إخضاع معتقدات الماضي لشيء من المحاكمة والتساؤل". (15)
فهل كانت غريزة الموت لدى "حياة" أقوى من غريزة الحياة، مما عجل في موتها؟ أعتقد ذلك فالحياة وسط لهيب الخوف والقلق والضياع، وعدم معرفة الطريق يؤدي بلا شك إلى قصف العمر بالقنابل الداخلية. إن السطور الأولى من الرواية تعبر عن خاتمة حياة "حياة"، حيث تظهر في لباس الحجاج في الكعبة المشرفة في رحلة تطهيرية نفسية، حيث تجد أخيرا السكينة والراحة في حضرة الإيمان مستسلمة لقدرها.
ومن اللافت للنظر في شخصية ناصر، إنها شخصية محبطة ومتشائمة في البداية، فهي شخصية متعلمة ومثقفة، وتسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وتتحمل الاعتقال بسبب هذه الأفكار التي تراها السلطة الحاكمة خطرا عليها، ثم يصبح وزيرا في الحكومة، ولا يبقى طويلا حتى يعزل ويهمش، وكذلك في حياته التجارية، ففي البداية يواجه العوائق ويحبط، ثم نراه يصبح مليونيرا، وفي النهاية بعد موت "حياة" يهمل عمله، ويعتزل الناس، ويقضي وقته يالسكر. أظن إن ناصر وحياة في النهاية يمثلان ذات واحدة متشظية وغير قادرة على معرفة بوصلتها، ولا شك إن موتهما خلال بضع شهور قليلة يوحي بارتباطهما في حياة واحدة...حياة بائسة رغم مرورهما بتجارب عديدة ومختلفة.
تركزت أحداث الرواية بعلاقة حياة بناصر، أو علاقة ناصر بحياة، فيبدو إن شخصيتهما تتكاملان، وكان من الممكن أن يلتقيا في نهاية سعيدة، فكل منهما يعاني من نقص موجود لدى الآخر، فالثقافة والإيمان والقيم موجودة في ناصر، وحب الحياة، والانغماس في مسراتها موجود في حياة، غير إن الفوضى التي تواجه الإنسان في الحياة الواقعية قد تعمي البصر، ويتخبط الإنسان غير السوي في مشاكل ومصاعب كان من الممكن تفاديها. فيمكن للإنسان أن يعيش بمبادئة وقيمه جنبا إلى جنب مع تناول ملذات الحياة فلا شيء يمنع من ذلك إلا معتقدات قديمة بالية ما زالت تتحكم في لا وعي الشخصية العربية.
إن الرواية هي رواية نفسية بامتياز، حاول الكاتب فيها أن ينير محتويات شعوره التي تتكون بفعل تجاربه في الحياة الانفعالية والعاطفية، والروائي هنا ينهل موضوعاته من الحياة، ويهضمها نفسيا ويحولها إلى تجربة شعورية، وعبر عنها من خلال الرواية. وقد قسم يونك تلميذ فرويد المتمرد الأعمال الأدبية إلى قسمين: رؤيوي لا يستمد الكاتب فيه مادته من عالم الأشياء المألوفة، ولا من تجاربه الشخصية، بل يستلهمها من عالم فوق بشري "يتباين فيه النور والظلمة تنساب مادته بلا زمن يحددها، كأنها رؤيا لعوالم أخرى، أو لغوامض الروح، أو لحالة بدائية سابقة لعمر الإنسان، أو لأجيال المستقبل التي لم تولد بهد". (16) أما القسم الآخر فهو الأعمال النفسية التي تستوحي مادتها "من العالم الواسع للتجارب الإنسانية الواعية، أي من تلك التجارب المتميزة بالنشاط والحيوية...وكل ما تشمله من تجربة وتعبير فني ينتمي إلى عالم الأشياء المفهومة". (17)
لقد وفق الكاتب باختيار اسم شخصيته المحورية، فحياة لم تكن امرأة وحسب بل هي تشير إلى وطن كامل يعاني العلل ولا يحرك أحدا ساكنا ليعالجه، كما إن اختيار اسم ناصر فيه مفارقة محزنة، فهو في النهاية خسر الزوجة والولد، وتعددت الأصوات في الرواية، وإن كان صوت حياة يبقى الأبرز.
في الرواية تم رصد "تكراراً للهاجس وللهم الاجتماعي الخليجي المكرر. والذي يتقاطع مع الشأن الدرامي الذي يتم تناوله من خلال المسلسلات الخليجية، أيضا في الرواية تكريس للنمط الاجتماعي الذي أفرزته مرحلة مابعد النفط". (18)
ورد الراوائي على هذا التساؤل الصحفي بالقول: "لأن حالات اغتصاب أعصابِ الإنسان هي ذاتها التي تتكرر ولكن في أماكن مختلفة! نحن نعيش وسط مجتمع مُنهك، ومسلوب الإرادة، فحياة - بطلة الرواية - يُمكن أن تظهر في أي بيت، وناصر أيضاً يمكن أن يكون الزوج المُحَطَّم في الدوحة أو الرياض او الرباط!؟ فالتكرار هنا يكون بالحدث ولكن ليس بالموقف والألفاظ والمشاهد. نحن لا نستطيع الانفصال عن مجتمعنا ونكتب عن أشياء وأشكال نتخيلها في المريخ أو بلوتو!؟". (19)
والقارىء المطلع على أدب الكاتب أحمد عبد الملك، سيجد إن الهم السياسي والاجتماعي يؤرقه، وإنه في كل أعماله يحاول أن يدق ناقوس الخطر القادم، إذا بقيت الحكومات ترتع بالدعة والراحة، وأفراد المجتمعات يسحقون تحت عجلات الحياة التي لا تعرف الرحمة لمن لم يستعد لمواجهتها.
______________________________
الهوامش
1- أحمد عبد الملك. القنبلة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2006. ص8.
2- إجلال محمد سري، علم النفس العلاجي، عالم الكتب، القاهرة، 1997. ص 167.
3- المرجع السابق. ص 168.
4- نبيه القاسم. الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف. فلسطين: دار الهدى. ط1. 2005. ص 54.
5- المرجع السابق. ص 66.
6- روبرت د. مالي. إعداد وترجمة أحمد صبح ومنير فوزي. السلوك الإنساني، ثلاثة نظريات في فهمه. القاهرة: هلا للنشر والتوزيع. ط1. 2001، ص 33.
7- المرجع السابق، ص 68.
8- سعيد، الأسدي، و إبراهيم مروان. الإرشاد التربوي، مفهومه، خصائصه، ماهيته. ط1. عمان: الدار العلمية الدولية للنشر، ودار الثقافة للنشر والتوزيع، 2003، ص 114.
9- محمد مشاقبة. مبادئ الإرشاد النفسي. عمان: دار المناهج للنشر والتوزيع، 2008 ، ص 115.
10- يحيى العبد الله. الاغتراب. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2005. ص 36.
11- محمد مشاقبة. مرجع سابق. ص 144.
12- إجلال محمد سري. مرجع سابق. ص 170.
13- سعيد العزه، دليل المرشد التربوي في المدرسة، دار الثقافة، عمان، ط1 2005، ص 243.
14- محمد مشاقبة. مرجع سابق. ص 145.
15- سعيد العزة. مرجع سابق. ص 245.
16- أحمد حيدوش. الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية. دون تاريخ. ص 30.
17- المرجع السابق. ص 29.
18- طامي السميري. مقابلة مع الروائي أحمد عبد الملك. صحيفة الرياض. 15-5-2008. العدد 14570.
19- المرجع السابق.
Post A Comment: