. د. نعمه العبادي
بعيداً عن سجالات الجدل المتعلقة بفهم خارطة الأسباب والمسببات التي تشكل وجودنا، وحدود الحتمية فيها، فإن المؤكد أن مجرياتها محكومة بسنن كونية كبرى، لا تبديل ولا تغيير لها ولا انخرام، وحتى التغيير والتبدل في الاحوال والاوضاع هو سنة كونية له شروطه وحقائقه، ومن اهم السنن الحاكمة سنجد ، أن كل شيء يتمظهر في (المعنى) لا يتأثر بالمتغيرات ولا يزول ولا يضعف، وهو في صيرورة مستمرة، وينطبق ذلك بشكل دقيق على العقل والقلب والروح، وكل ما يتصل بهما من نتاج المعنى، وأن ما يتمظهر ب (المادة) قابل لعرض الطواريء عليه، وتتبدل صورته واحواله في ظل تبدل جملة المتغيرات التي تحيط به، مع التسليم بالمقولة التي تقول (أن المادة لا تفنى ولا تستحدث) مع التحفظ على نقاشات معقدة تتصل بهذه المقولة ليس هنا محلها.
الجسد حمالة الذات الانسانية، وساحة ظهور استجاباته لعالم المادة، وللآثار المادية التي لها صلة بعالم المعنى، وهو الصورة الظاهرية التي يتحرك عليها مؤشر العمر من لحظة الصيرورة الاولى في الارحام وانتهاء بآخر لحظة تغادر او ترفع او تسحب الروح منه ليعلن موته الظاهري، وهو الواجهة التي تظهر عليها الرغبات والامنيات والقدرات والاستجابات والنكسات والعجز والصحة والمرض وكل العوارض التي في سياقها.
تختلف مكانة الجسد عند الجنسين في الانسان، ففي الرجل محوره الاساس (القوة)، وكافة التمظهرات تدور حولها، وهي الامر المصيري الذي يحرص الرجل على وجوده، ويتعلق هذا الامر بطبيعة الدور الذي رسم للرجل في خارطة الحياة، لذا فهو حريص على بقائها بكل الصور، وقلق من فقدانها او نعته بالضعف، وكل محاولاته للتدارك بما فيها صبغ الشعر وحلاقة اللحية وممارسة الرياضة واخذ المنشطات باشكالها ودواعيها والاهتمام بحياة مرفهة، كله يتصل بقضية الأبقاء على القوة، والتي تبلغ ذروتها في مرحلة الشباب وتمام العافية، ولهذا يحرص على الحفاظ على توصيف (شباب) ويفرح به، ويبذل كل الجهود لكي لا يخرج من دائرته، لأن ذلك يعني أنه ما يزال يملك القوة، والتي تعني بعبارة اخرى، أنه ما يزال فاعلاً ومجدياً وعضواً رئيساً في ساحة الحياة، وأما بالنسبة للمرأة، فالامر مختلف، فمحورها (الجمال)، وهو امر يتناسب مع الدور والمكانة التي وضعتها لها الحياة، وكما ان الرجل مهوس في مطاردة القوة، وقلق من فقدانها، فهي بأضعاف ذلك متعلقة بالجمال ومعالمه، وكل فعالياته تدور حول ظهوره الواضح عليها، وتحسين ما يمكن تحسينه، والتشبث به لاكبر قدر ممكن من الحياة، لذلك عندما تريد المرأة الاعتداد بنفسها وهي في مراحل عمر متقدمة، تقول (ما زلت جميلة)، بينما يقول الرجل (ما زلت شاباً اي مازلت قوياً).
وإذا كان الرجل اكثر تصالحاً او تسامحاً مع الفقدان الطبيعي للقوة، فإن المرأة أقل انصياعاً لحقيقة تغير جمالها وتبدل صورتها، خصوصاً عند النساء اللواتي كان لهن جمالٌ مميزٌ في مراحل من اعمارهن، ولا يعني هذا الامر نقصاً او مثلبة للمرأة، فدورها المعقد مرتبط جوهرياً بالجمال حتى بعيداً عن فكرة كونها محبوبة ومطلوبة من قبل الرجل.
إن التطلع المبكر لجنس (الانثى) للدخول في ساحة التنافس على الدور ضمن خارطة الحياة بفعل حزمة معقدة من العوامل، وتزايد امكانية انتاج صور للجمال غير الحقيقي عبر وسائل التجميل المختلفة او من خلال خداع الصورة، وضع الجنس الانثوي في تحد اكبر، وضغط اشد، للتمسك بتلابيب الجمال وتدارك ما فات منه، والسعي بكل الصور لاستعادة صورة مرضية تخلق توازناً نفسياً لها، الامر الذي تلعب على وتره شركات التجميل وورشه، وينتعش به عالم الاستهلاك الخبيث، ويفتح تنافساً يدفع (المعنى) إلى الوراء كثيراً، بعيداً عن دائرة الاهتمام.
توجد ثلاثة صور تختل فيها استجابة الجسد وذلك لعدم توافقه مع المحور الاساس لكل من الجنسين، وهي بمجموعها تمثل مصدر معاناة للانسانية بدرجات متفاوتة، وتتمثل في الآتي:
- الصورة الأولى: تتمثل في النواقص الجسدية في (الجمال) أو (القوة) التي ترافق الانسان من اول رحلة حياته، ولها طيف واسع من الصور، يبدأ من درجات بسيطة لنقص الجمال والقوة، والذي لا يعطل ممارسة الدور بشكل كبير، بل يخلق صعوبات فيه، مثل صعوبة فرصة التزويج والحب للمرأة، وضعف قدرة الرجل على القيام بدوره، وتتسع الصورة إلى الحالة المتقدمة من التشوهات الخلقية والعجز التكويني، الذي يمنع الانسان من ممارسة دوره المتصل بالقوة والجمال، مع امكانية ممارسة دوره المتصل ب (المعنى) وهذا امر اخر نستكمله في آخر النص.
الاعاقات الجسدية بمختلف اشكالها ودرجاتها محنة انسانية ازلية ابدية، ومع كل التوصيفات اللطيفة والنماذج المشرقة التي تجاوزت هذه المحنة عبر التألق في عالم (المعنى) لدرجة سبقوا فيه المكتملين جسدياً إلا انه أخل بالدورين المتعلقين ب (القوة) و (الجمال)، وانعكس بدرجات متفاوتة من الوعي والتعاطي المتفهم معه.
- الصورة الثانية: تتمثل في العوارض الطارئة مثل المرض والحوادث والحروب، التي تضر بامكانات الجسد لناحيتي القوة والجمال، وتقلل او تعدم قدرته على الاستجابة.
وكما هو الحال في الصورة الاولى فإن هذا الضرر له مراتب ودرجات، كما انه بعض قابل للتدارك والعلاج، وبعضه يبقى ملازماً حتى آخر العمر، وتتناسب المعاناة من هذا النقص والخلل طردياً مع حجم العجز الذي يخلقه في ممارسة الدور، ودرجة التفهم والتصالح معه، والقابلية على تعويضه بعالم المعنى، ومع كل ذلك يشكل حالة مأسوفاً عليها، تتجلى في صور مؤلمة من الألم الصامت او المفضوح، وقد تزايدت مساحة هذه الصورة بفعل الحروب والصراعات وتعقد ادوات الحياة مثل كثرة الحوادث المرورية وعموم حوادث الحياة، وتشعب الامراض، وظهور اشكال غريبة منها.
- الصورة الثالثة: وهي صورة شبه عامة، ودرجة التصالح والتقبل لها اكبر من الصور السابقة مع احتوائها على درجات متفاوتة من الالم، وتتمثل في التناقص الطبيعي لقدرات الجسد بفعل تقدم العمر ودورة الحياة الطبيعية، حيث تتضائل تدريجياً قدرته على الاستجابة لدوري الجمال والقوة، ويصبح مقبولاً التعاطي المتسامح مع درجات واطئة من انجاز هذين العاملين.
تختلف درجات تأثر البشر بدورة الحياة، فتظهر حادة ومبكرة على بعض، وتتأخر عند آخرين، ويتقبلها بعض بروح رياضية ويتعاطى معها، ويعيش الفزع والالم والحسرة بعض آخر، ويحاول بعض تداركها عبر الترميم والتجديد، ويسكت عنها آخرون مطلقين عنانها لتعبث بوجودهم كأمر محتوم، إلا انها مع كل هذا التفاوت فإنها تفت بعضد الاستجابة لمتطلبات القوة والجمال، وتحيل الامور للتعويض ببدائل اخرى.
بعيداً عن المثالية الرومانسية، فإن الجسد عبر القوة والجمال محور حراك ونشاطات الحياة المتكثرة، وأن التعالي او الزهد بدوره لا يمثل الواقعية، وان وجود معاناة انسانية عميقة تتصل بمخرجات الصور الثلاث امر لا مفر منه، ولا ينبغي التغاضي عنه، ولكن الاهم في ما يريده النص، تقديم اجابة اولية للخلاص (النسبي) من كل هذا.
تقوم (مقاربتنا) على حقيقة أن (عالم المعنى) في الوجود الانساني لا يتأثر بالصور المذكورة، بل على العكس من ذلك فهو يتنامى ويتحرك (في معظم الاحيان) عكسياً مع الصور الثلاث، حيث تطور قدرات الروح، وتعالي مجسات الاحساس ورهافته، ونضوج العقل والخبرة، الامر الذي يمثل بديلاً تعويضاً لهذا الخلل، وهنا لا بد من الاشارة الى ان عالم المعنى وتمظهراته لها دورها المتقدم على الجسد في الانسان، وعلاقتها التكاملية معه لها سردياته المختلفة التي لا يتسع المحل لايرادها، كما ان مظاهر للقوة والجمال من جنس المعنى لها مسار المختلف عن مسار عالم الجسد، وبذلك فإن الحل الحقيقي لكل صور العجز في استجابة الجسد لمتطلبات القوة والجمال يكمن في تنمية عالم المعنى وادواته ومظاهره، وهي الحالة التي تجعل الناس متفاوتين في درجات تصالحهم مع آثار الصور الثلاث المشار إليها.
يبقى هناك تحد اكبر يتصل بالفلسفة الحاكمة على معظم وجودنا وعالمنا، والتي تقوم على اساس مركزية الجسد ومحوريته، والذي يمكنها من توظيفه واستغلاله بسهولة، كما ان ذلك يتطابق كلياً مع متطلباتها للربح والاستثراء والشيطنة، وفي ذات الوقت يتم الزهد التدريجي والاستهانة بالمعنى، لذلك تصبح آثار الصور المذكورة اشد واقسى في ظل هذه الفلسفة الغارقة في عالم المادة بكل اشكالها، الامر الذي يحتم احياء وتجديد فلسفات متوازنة تعيد للمعنى مكانته دون الاخلال بدور الجسد ومحله في الوجود، وهي مهمة شاقة وكبيرة، لا بد لمن يريد الانخراط بها، أن يفهم انه يواجه جنون العالم وغطرسته وادواته وجيوشه، وهي معركة اصعب من كل الحروب التي عرفها التاريخ.
اتمنى ان يكون هذا النص ساعد في خلق فهم اكبر وتفهم اعمق لسنة التغيير السلبي وتبعاتها، والذي يخفف من المعاناة الكونية لها، وقدح شرارة التفكير في مواجهة حتمية لا مناص منها لازالة الالم عن وجه الانسانية، والحقيقة أنه خلاصة مشروعي الفلسفي والتغييري الذي تبنيته منذ عقود بشكل غير مباشر عبر كل صور الانتصار لعالم المعنى التي ناضلت من اجل من خلال كل الوسائل المتاحة، واليوم اطلق صوته عالياً وصريحاً، ملتمساً كل من يؤمن به أن يستجيب لشعاره الذي يقول: ( خففوا وجع العالم، وهونوا ألم الانسانية، ولملموا انكساراتها، وتداركوا شتاتها بالانتصار إلى المعنى وعالمه).



Post A Comment: