كان ذلك الحي الواقع على قاع جغرافيا كل الأرض يمثل تحدي للعبور بين أزقته وشوارعه التي كونتها مجموعة بيوتات فقيرة مشيدة من الطوب الأخضر (الجالوص) والطوب الأحمر، حيث اللغة التي أعرفها عنه هي لغة السلاح "السكاكين والسواطير" والجهل الذي يفتح مسامات لصراعات دامية، فأتسآل:
- كيف عبر هذا الرجل إلى هنا؟
كيف وجدت أنا نفسي هنا؟
ولماذا للآن أنا هنا؟!!
المهم أنه عبر، بإختلافه الذي يعمي كل العيون لرؤيته، حيث في نظر كل الناس "كان يقف على ناصية اللاشيء" وفي نظري أنا، كان يقف على ناصية كل شيء؛ أي لقد كان في نظري الذي يرى الأشياء بعشرةِ عيون مثقف عضوي، أو كما يعرف أيضا بالمثقف المستقل أو الحر، أي غير الخاضع للإيدلولجيات أو هو المتماهي للتفكير الجمعي أو الحس الجمعي.
كان كشجرةٍ أنبتت في صحراءٍِ، متفرداً بفكرهِ وثقافتهِ الثرّةِ بالعلومِ، الوجودِ، الدنيا، الآخرةِ، الذاتِ، الآخرِ، الكونِ ..إلخ، حيث حدثني في هذا اليوم أو ملّكني نصيحة في لحظةٍ وجوديّة بين حيّز ما نسميه، دون فهم الذات والآخر والحياة.
قبل أن ألتقي به في الأمس القريب الذي أتي فيه لأولِ مرةٍ إلى هنا ليجري بحثه عن الإنسان في عزلةِ هذا الكوكب:
- لا تعتقد بأن كل الساحات هي خذلان، ففي الضفة المقابلة للخذلان هناك أمل، إذ إعتقدت عكس ذلك، عليك تحمل عاقبة إعتقادك.
قلت له:
- كأنك تقصد بأن الإنتداب الأجنبي هو أنسب من يحكمنا؟
ردّ وهو يجتذب نفساً عميقاً من دخان الكدوس:
-العقل السوداني غير قابل للإبداع الفكري تحت المنظومة الجماعية من ذات بيولوجية العقل، فهو مبدعاً فردياً، أي هو كما تسميني أنت؛ كالمثقف العضوي أو المستقل "الحر" لذلك فشل الحكومات المتعابقة هو نتاج لهذه المشكلة غير القادرة أو العاجزة تماماً - حاضراً و مستقبلاً - عن تقديم حلول جذرية مرضية لمشاكل معقدة مثل "التركيبة السكانية المعقدة بتعدديتها الثقافيّة والأثنيّة والدينيّة التي أنتجت مشكلتين ما بين الحرب أولاً، والبحث عن السلام مؤخراً.
هذا غير الفشل الآخر في الجانب الإقتصادي من حيث إدارة الموارد، وفهم العالم "المركزية الغربية" للوقوع في فخها فيما يعرف "بالإستعمار الحديث" عبر أدواته المتعددة والمتنوعة "الذكية جدا"، لكل ذلك لن ينتج "أفضل" نوابغ المجتمع السوداني دولة مثالية تستحق الإحترام.
الإنتداب الأجنبي إذا كان غير معيباً في كونه 'إستعمار" على حدود الكلمة "المؤذية نفسيا" و"المخجلة" هو أجدر بمن يحكمنا.
قلتُ لنفسي بعد هذا الحديث:
- اللاشيء هم نحن، الذين لا ندري بأن كل شيء مستخلص من الطبيعة، ولولا الطبيعة لما كانت هناك سيرورة للحياة، الذين نجهل بأن الأمم تتقدم بالعلم والمعرفة.
وهل اللاشيء أن تفكر خارج الصندوق عند هذه المجتمعات التي لا زالت تصارع في لقمة العيش؟
قال في منتصف تساؤلاتي التي لم تنتهي بعد، كأنه كان يستوطن في ذهني:
- أظنك انت الوحيد بين هذا المكان تعيش في عزلتين؛ عزلة المكان وعزل الفكر!.
انت تمثل حالة وجودية نادرة الوجود، أنت المصارع الذي تملك الحل لهذه البلاد، لتخطو في هرم الأمم، فالأمم تتقدم بالباحثين مثلي، والمفكرين مثلك، والمخترعين أمثال ليونارد كلينروك، وروبرت خان، وتوماس إديسون، لكن أنا وأنت وهؤلاء، وسط أمتنا هذه لا نمثل سوى عبء ثقيل لهذه الأمة، كشيءٍ أجوف مضر بسيرورة الحياة في شكلها غير المثالي.
قلت له غير مازحاً:
- أفكر في لحظةٍ ما، لماذا بُنيت الحياة بهذا الأساس المرهق؛ أن تعيش صراع الحصول على لقمةِ العيش، أن تمرض، أن تحزن، أن تتعطّل بك الحافلة في منتصفِ الطريق، أن تجوع، أن تكون غبي أحياناً لتعيش عكس أمنيتك؛ أي مصارعاً لهذه الحياة.. إلخ، أو لماذا هناك مراتب طبقية بين البشر، ما بين فقيرٌ و غنيٌ، لماذا؟
يقول القرآن الكريم (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
من المستفاد عند الربُّ ليخلق الإنسان في كبد؟
هذا السؤال برئٌ مِنّي، أي هو موجود عند بشر آخر، له فكرة أخرى عن الوجود والخلق والإيمان!.
رد بهدوءٍ معتاد يحمل ديمقراطية معهودة منه، أي لم يكفّرني أو يعاملني بعنصريةٍ ضد حرية الفكر أو الرأي:
- هذه أفكار يجب أن تأتي فرضيتها بعد الخروج من محنة الصراع هذه، لذلك أضع نفسك في حيّز الحل دائماً، وليس في حيّز سبب وقوع المشكلة، إذ كانت هذه مشكلة أوجدها الربُّ لحكمةٍ.
وهل الربُّ يوقع المشاكل بيننا؟
الإجابة على هذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر، والسؤال الآخر يوقع بنا في دائرةِ الجدل، والجدل قد يقودنا نحو صراع آخر أيضاً، إذ كنا شعوباً جاهلة لا يحيط بها أدب الحوار!.
أتدري بأن كل الحروب المفتعلة بين الشعوب العربية الإسلامية هي نتاج لجهلٍ وإختلافِ عقائد وثقافات وأفكار وسحنات!
مررنا بعد حين بين مدرسة ثانوية يقال بأنها خرجّت أطباء ومهندسين وإقتصاديين أفذاذ، ليقف بملابسه النتنة والمتسخة، وسبحته الكبيرة بمقاس الثلاثة أمتار، المصنوعة من ثمرة شجرة اللالوب، وقبعته الحمراء المليئة بالثقوب، التي صورته لا شيء، متمعناً وقائلاً:
-هذه المدرسة ككل المدارس في البلاد فاشلة، إذ كانت تخرّج أطباء ومهندسين ولا تخرج علماء ومفكرين، فالمدرسة التي لا تضع في تدريسها حصة الفنون، الثقافة، المكتبة، والرياضة التي تساعد في العلاج النفسي للطالب، لا تعد مدرسة ناجحة. إذن نحن نخرج مراراً وتكراراً في مجتمعات فاشلة، وهذا الفشل ينعكس في وزير قد يحمل شهادة دكتوراة من أفضل وأرقى الجامعات العالمية، لكنه لا يحمل الثقافة والفكر والذكاء الكافي ليقود وزارة، فالوزير مثقف ومفكر وذكي قبل أن يكون وزير بشهادته الجامعية، لأن في لعبة السياسة قد تمر بشيطاين بشرية ذات حنكة، لكي تهزمها تحتاج إلى: إيمان ثقافي وفكري وذكائي.
قلت له:
- فالنذهب لتكمل بحثك بين بيوتات بائعات الخمر.
ردَّ ضاحكاً بسخرية:
- لقد كنت غبياً في أنني أتيتُ إلى هنا، وأنا أعلمُ بأن بحثي سوف تستفيد منه شعوب أخرى مهووسة بالبحوث العلمية لتغيّر من مجرى حياتها وليست حياتنا نحن، نحو الأفضل، فلا تظن بأن البحث عن الإنسان لا علاقة له بالإنتاج الإقتصادي.
قال حديثه هذا، ثم إختفى في لمحةِ بصر.
قد يكون في ظني شيطان يريد أن يملّكني مجموعة نصائح لن تفيدني أو تفيد هذا المكان بشيءٍ.
لو كان الجهل في عصر التقدم التكنلوجي ما زال يُشاع بين شعبي الذي تصفق أيديه للجاهلِ، ولا تشهد عيونه العالم!.
Post A Comment: