تعودتُ کلَّ أَحَدٍ أنْ أرتدي ظلي وأحزمه بحذاء وثوب ریاضی ، عازمةً أن أقطع مسافةً من ألَمي مشیا. ماذا أفعل مع هذه الجاٸحة المتواطٸة مع وزني ، والذي بدأت تنتفض به كيلوغرامات زاٸدة بعدما أغلق النادي الریاضي أبوابه، ومنعت من السباحة !? . لا أمل لي في استرجاع لیاقتي إلا بقطع مسافات من هذه الأرض التي بداخلي أزرعها وردا حتی لاتذبل کل الخطوات المارة علی قلبها، تسوقني إلیها قدماي في هذا الصباح الشتوي، إنها سعة الحدیقة العمومیة التي یغسل وجهها کل آخر أسبوع عرق شباب مهووس بالقد الرشیق، وشیوخ یشدون علی الحیاة بالطریقة الصحیحة والموصی بها في کل الوشوشات الصحیة.
أمشي غیر مبالیة بأحد ، وبین الحین والآخر أشعر بأحدهم یسرع المشي أو یجري، وأنفاسه تلهث خلفي…جانبي…. أمامي، مرة أجدها أنفاس امرأة تخطو علی السنوات لتغالب عراکها وتمسح تجاعید الزمن الذ ي یحاول أن یثبتها في تربة النسیان، ومرة أجدها خصرا ممشوقا یمعن في الجمال أكثر وأکثر، وأحیانا یکون شابا یسابق الریح ویترکني خلفه أنتظر هبوبه.

 

سأسرع بدوري، أشعر أن المشي يعیدني لتوازني الطبیعي، یمنطق وجودي ویحرك بعضًا من شعوري المیت، لأرکب عوالم کانت تخیفني سابقا، سأظل أمشي لربما استطعت أن أنجز رقما قیاسيًّا من العودة اللامشروطة إليَّ ، وأسامح نفسي علی بعض الخطوات التي سقطت مني في غیر محلها وزمانها دون سبب یذکر، أشعر فعلا أن مسام جلدي تمتلك رٸة خارج جسدي وتکتسب لونا ورديًّا لا أعرفه إلا في ریشة صدیقي حین رسمني باسمةً إلیه.
أمعن في المشي، ویمعن الماء في دغدغة مابین کتفيَّ، لا سبیل أن تصل یدي هناك، فأتذکر أختي، التي کلَّما ذهبت إلیٰ الحمام العمومي رفضت أن تنظف العاملة( الطیابة) لها ظهرها، بحجة أن یدها تستطیع التجوال في أزقة ظهرها بکل حریة، أما أنا فلا أكاد ألقي التحیة علیه ، وکم مرة عفوت عنه – واکتفیت بکیس من الصابون المعطر .
واصلت المشي ، وکل مرة أرتشف جرعات من قنینة الماء الممزوج بعصیر اللیمون.

 

تقول بعض الفقیهات: “إنه یساعد علی إحراق الدهون، خاصة في منطقة البطن وینسي شغب القلوب” .
أمشي ….أمشي…. أشعر بتعب ، أتصفح برنامج المشي المثبت بهاتفي، تجاوزت الکیلومترات المحددة، استغرقت في كتابة الحدث علی الهاتف دون أن أغیر شاشته وأطلع عن المسافة التي قطعت.تهاویت علی أول مقعد صادفني ، أغمضت عیني لدقیقة محاولة استرجاع أنفاسي، حینها سمعت صوتا ذکوريا منفعلًا بشدة ، یهدأ بعض الوقت لیعود مرتفعًا بشکل هستیري. فتحت عینيَّ لأجد في الجهة الأخری علی یمیني رجلا جالسا هو الآخر علی کرسي ، یتجاوز عمره الأربعین تقریبا، ذو سحنة بیضاء وشعر یعقده خلفه، يرتدي سروالًا “جینز” وقمیصًا أزرق.
خرجت من تعبي، وکنت أسترق النظر إلیه بین الفینة والأخری، فیما کان یجلس تارة ویقف أخری ، متهکما مرة أو مدافعا عن نفسه، یصرخ وکأنه في عراك مع الآخر اللامرٸي. أصدقکم القول إن قلت أن الخوف تملکني ، وتیقنت أن الرجل معتوه أو یعاني من نوبة جنون تملکته حینذاك (إذ کان خارج محیطه کلیا).

 

كلمة “جنون ” لو أمکنني لسجنتها مٶبدا طیلة عمر البشریة حتی لا أسمعها أو أعاین الحالة الدالة علیها، لأن “الجنون” أحقر مرض یمکن أن یصیب البشریة یفقدك الإدراك، ويخرجك من إنسانیتك ومن العالم المشترك مع أبناء جلدتك، لعالم مستقل ، تتحرك فیه کما تشتهي بجنونك وتیهك مع أناس من وحي خیالك، یقاسمونك هوسك واختبالك، قسمة لك منها النصیب الأکبر.
أتأمل الرجل الغارق في الصراخ مع نفسه، وكأن أمامه محاورا مباشرا یجاذبه ثورته.
یسکت هنیهة ویتابع الحدیث، کل حرکاته تٶكد إصابته بالخرف والجنون.
لا یمکن أن أبقی قریبة منه، عليَّ الإبتعاد قدر الإمکان قبل أن تشتد علیه النوبة، انتصبت واقفة ومررت من أمامه في لحظة صمته، رفع رأسه ونظر إلي، راعني -إذ ذاك- شيء یتدلی من أذنه بالجهة الأخری لوجهه، تلصصت بنظراتي ، فإذا بي أری سماعة موصولة بهاتف في جیب قمیصه، شعرت بالخجل من تأویلاتي العبثية، تأکدت أن المجنون هو من یری نصف الأشیاء ، والظالم لنفسه ولغیره هو من یصدر الأحکام دون أن یتبین الوجه الآخر للحقیقة ، وأن الأشیاء تکتمل بصورتها عندما تنتصب علی قدمیك لا جالسا، وأن هموم الدنیا یحملها سلك یربط بین اثنین عالقین في بدایة الجنون.




Share To: