عاد إلى مكتبه ، بمعنويات هابطة . أعاد الاهتمام بمظهره كما ينبغي . و جلس يتنفس الصعداء .
بعدما أنجز ما يتعلق الأمر به ، أسرع على عجل من مكان إلى مكان . كان عليه أن يهمس للجميع منبهاً. و تداولَتْها الأيدي . جرى بقفزات بهلوانية. يتأرجح من سلّم إلى سلّم . ومن أسفل إلى أعلى . و من أعلى إلى أسفل . حركات توحي بمقدرة لاعب سيرك . وصل إلى البواب . البواب مَجَسٌ حساسٌ لفهم الألغاز . أضنته الرحلة الشاقة صعوداً و نزولاً . أطل عائداً ، أشار له البواب أن يدخل . تناولها المدير ، و سلّمها واقفاً لضيفه بابتسامة عريضة. ثم خطا خلفه وودعه عند عتبة الباب
بعد أن فرغ مما كُلّف به عاد إلى مكتبه. لم يعد ثمة ما يستدعي أن يُرتّب مظهره. فقط عليه أن يبدأ بترتيب أوراقه بصمت ، ثم يتكئ على ذراعيه من فوق مكتبه و يرتخي متأملاً .
انكب على أوراقه بصمت . متبرماً في داخله . الوقت ينحسرليترك له الأمل بانتهاء الدوام الرسمي . تمعن بساعته . كان يستسلم لقراءة حالته . ليراقب : كيف كان يتدحرج من فوق السلم . يقفز قفزات البرغوث .
يضع رأسه بين كفيّه و يقر : إنه هنا ، شخص آخر تماماً ، بل يؤدي أدواراً لعدة أشخاص . لم يعثر على نفسه من بينها . و خلص أن يخرج بنتيجة يقولها بصوت واضح مرير :
ـ كم أنا متورط بما لا يطاق ؟
* * *
يهيّئ نفسه ، بعد أن أزِفَ الوقتُ للخروج . لا يملك مزاجاً رائقاً . كانت نَفْسه مبتلاة بالإحباط .
عندما انطلق مع غيره إلى الشارع . كان الجميع يحثون الخطى بصمت أو يتهامسون . أسرعوا جميعاً بانتظار وسائل النقل . كانت الشتائم تنفلت من ألسنة النسوة . و الرجال يبدون متكدّرين . كانوا جميعاً يهرعون ركضاً من أصغر سن لأكبر سن . من امرأة لرجل . كانت الوجوه مهمومة حادة المزاج . بعبارة واضحة : كان الجميع يبدون و كأنهم قد انفلتت ألسنتهم ، كأنها تأبى أن تعود إلى مكانها .
وعلى الرصيف : تزاحمت في رأسه العديد من الاعتراضات . شيء يقفز فوق شيء . كلها تصب في مصيبة تورطه ، بما لا ناقة له فيه و لا جمل . يُسخّرُ في مهام ، يشم منها نتانة و تصرخ مخالفاتها .
ينتابه إحساس : لو كان جريئاً لرفض ما تم حشره فيه ، وهذا الإرغام ، يثير التهم و التأويلات عن فحوى اختياره هو بالذات .
كان يود ، لو تجرأ في القول :
ـ أرجوك يا سيادة المدير : لا تجعلني أُمارس المخالفات التي لا ناقة لي فيها و لا جمل .
كان هكذا يتمرد و يحرق دمه ، مُردداً في داخله . فيستدرج قناعته ، و هو في طريقه إلى البيت ، ضمن استنتاج مؤداه : أنه هكذا . حتى عند استلقائه في الليل ، عادة ما يقاتل في ظلامه ، ببطولات بهلوانية . فلا يجني من ورائها غير صداع الرأس . يقُرّ أنها أشبه بقفزات القرد المثيرة للسخرية . ليدرك أخيراً ، بأنه مُرغم أن يتحول إلى شخصية متعددة الأدوار .
عادة .. ما يلج باب البيت مستفزاً. يستعيد : كيف كان يثور لأتفه الأسباب . كأن زوجته هي التي تسببت بتعاسته . فيُفرِغْ هزائمه ، دون وعي منه ليُثقل قلبها .
هذه المرة.. استقبلته على عجل . لتنزع عنه ( شاكيته) و تراقب بحذر ملامحه النِمْرية . حز في نفسه أن يشاهدها ، و هي تبدو مثل أرنب مذعور أمام نمر .
لكنه.. ما أن فوجئ بجسده يتّكئ على كتفها ليُرهقه بثقله ، حتى أطاعت أن تدعمه بيدها اليمنى وأن تحيطه بذراعها الأخرى .
طبعت على فمه قبلة ناطقة . و قادته مثل طفل يحتاج إلى رعاية .
بعد أن خلع في مَنْزَع الحمام كل شيء ، و أخذ دشّاً من الماء ، راقب تفاصيل جسده أمام المرآة و هو يرتدي ملابسه .
مازال في رحلة يحاول أن ينفصم عنها ليعود ، إلى طبعه في البيت ، يستدرج دون رقيب ، عناء كسب رزقه النظيف . ما زال بحاجة أن يهزم الرجل المستلب في رأسه .
يسحب رتاج باب الحمام .. وجد زوجته بانتظاره . قال لها بصوت كأنه مريض يمر بفترة نقاهة :
ـ دعيني آخذ نفساً، وأن أتناول غدائي و أرتشف قدح الشاي ، حتى أتفرغ كي أشرح لك ما يشغلني :
Post A Comment: