أطر جديدة
الآن حصحص الحق، لفظ المسلمون كبار مشايخهم المتعاونين مع المحتل ولم يعد هؤلاء الشيوخ بالنسبة لعموم المسلمين، علماء يؤخذ منهم العلم الشرعي،
فنادى صغار المعممين في خطبة الجمعة بضرورة الجهاد ضد فرنسا الكافرة، والتي تفرض على المسلمين الضرائب الباهظة،
يجيد جبايتها النصارى واليهود المعينين من قبل المحتل،
وهذا الفعل إن دل على شيء فهو يدل على نقاء سريرة عموم المسلمين والارتداد إلى صحيح دينهم عند اشتداد الأزمات، وهذا يعد فعل إيجابي،
فلا يغرنهم شيخ يشيع أنه من الأشراف حتى ولو كان هذا حقا وحقيقة فلا سمع له ولا طاعة،
ولا ميزة ولا علم طالما يضع يده بيد المحتل، فالولاء هنا فقط للمخلصين الذين يتبرؤون منه مهما ادعوا علو كعبهم،
فمن الأنبياء من تبرأ من أقرب الأقربين إليهم ولاء وطاعة لله وإعلاء لكلمته فقط دون غيرها وهو أمر ربما لم يفهمه نابليون ومستشرقيه.
الجماهير الثائرة تهاجم الفرنسيين
وانتشرت بؤر الجماهير الثائرة التي هجمت على دور الفرنسيين وقتلت منهم أعدادا غير قليلة ولم يستجيبوا لكبار المشايخ الذين سموا هذه التحركات بالفتنة الواجب وأدها!!
وكما وصفها لورانس فإن أكبر عيب فيها أن هؤلاء الثوار لم يكن لهم قائدا يلتفون حوله..
ولكنه تحرك غلب عليه الحمية الدينية والحماسة، استجابة لدعوات صغار المشايخ وطلاب الأزهر.
الأزهر منطلقا للثوار
كان حي الأزهر منطلقا لهؤلاء الثوار.. والجامع نفسه كان مقرا لهم.
فتلقى الحاكم العسكري الأمر من نابليون بضرب حي الأزهر وبقية الثغور الثائرة بل واقتحام الأزهر..
ويصف الجبرتي الحدث فزعا فيقول:
«ثم دخلوا الجامع الأزهر الخيول وبينهم المشاة كالوعول،
وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات،
وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة،
ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشنوا الكتب والمصاحف،
وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وبالوا وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب،
وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه».
وفي هذه الأهوال قتل ما بين مائتي إلى ثلاثمائة فرنسي وأكثر من هذا العدد بعشر مرات من المصريين،
ولأن الفرنسييين علماء ومتقدمون ويقدرون المخطوطات وهم من حلوا من بلادهم لتحديثنا وتمدينا!!
كما يشيع المهزومين من بني جلدتنا فقد قام مارسيل، أحد علماء الحملة، بإنقاذ بعض المخطوطات الثمينة ومصحف رائع مكتوب على جلد جمل كما قال لورانس..
(بالطبع سرقت وحملت إلى فرنسا الصليبية).
حركة اعتقالات وإعدامات
أعقب هذه الأحداث حركة اعتقالات وإعدامات وسارع المصريون لارتداء الشارة الفرنسية اتقاء لقمع الفرنسيين،
وتوصل الفرنسيون إلى أن الشيخ السادات هو زعيم هذا التمرد وهو من يوصف بالفساد والتجبر..
فلما قدمه نابليون لكليبر قال له لماذا لا تعدمه رميا بالرصاص؟
قال له هذا الشعب عاداته غريبة علينا ولابد له من زعماء:
«وأنا أحبذ أن يكون له زعماء من نوع مماثل لهذا النوع، الذي لا يستطيع امتطاء صهوة جواد ولا استخدام السيف،
بدلا من أن يكون له زعماء من نوع مراد بك،
إن إعدام هذا العجوز العاجز لن يؤدي إلى أية فائدة ومن شأنه أن تترتب عليه عواقب أسوأ مما تتصور».
بات راسخا لدى نابليون وجيشه أن المصريين لن يقبلوا بوجودهم وأن مقاومتهم واجب ديني بالدرجة الأولى،
ويتوازى هذا مع الهجوم المشترك من الانجليز والعثمانيين على حد سواء على الأسطول الفرنسي بالإسكندرية..
يرافق هذا عدم الشعور بالأمان تجاه المماليك الفارين إلى صعيد مصر.
جاس جيش نابليون في صعيد مصر لمحاربة المماليك الفارين هناك والقضاء عليهم خاصة مراد بك،
رغم أن جيش نابليون هو من يسيطر على مصر كلها ولكنه مزيدا من التمكين وبسط النفوذ،
وازداد الوضع سوء مع ارتفاع وتيرة مطالبة عساكر نابليون بالمطالبة بالرحيل عن مصر،
أو المطالبة بالحصول على إجازات طويلة يتمكنون من قضائها بفرنسا،
فكان ولابد من ابتداع وسائل للتسلية والإلهاء فكانت الفرق الموسيقية تعزف الموسيقى العسكرية كل يوم بعد الظهر عند المستشفيات العسكرية..
يقومون بهذا، للتسرية عن المرضى وإنشاء حديقة على الطراز الفرنسي ملحق بها قاعات للعب وحفلات الاستقبال وقاعة للمطالعة.
ومن الأعاجيب التي يذكرها لورانس أن الماسونية عادت للظهور بعد أن قضت عليها الثورة الفرنسية، ظهرت كوادر قديمة تعاونت مع جدد داخل صفوف الجيش.
(رغم أن ثورتهم كانت ماسونية بامتياز باعتراف أقطاب الماسونية أنفسهم بل والمحفل الأم يوجد بباريس)
ويذكر لورانس أن وجودهم بمصر قد منح الماسونية روحا جديدة تثبت أن أصولهم فرعونية كما استفاد نابليون من وجودهم بمصر بأن أصبح هو نفسه ماسونيا.
أما ما أقلق قادة الحملة هو انتشار وباء الطاعون والرمد في صفوف الجيش..
ولم يكن قد ظهر علاج بعد سوى الحجر الصحي وإعدام متعلقات المرضى حتى يحدوا من انتشار المرض..
أما ما أثار تساؤل لورانس حد العجز عن الإجابة،
هو لماذا لم يصب المسلمين بالطاعون ولم يمت أحدا منهم به بينما انتشاره في صفوفهم يفوق تصورهم؟
الإسلام السياسي
مفردة يتم إطلاقها للمرة الأولى من المستشرقين المرافقين لنابليون، قسموا الإسلام وصنفوه!!
(وحديثا في عام 1998 صدر كتاب أوليفيه روا وهو مستشرق فرنسي أيضا بعنوان الإسلام السياسي وأقل ما يمكن أن يوصف به أنه سيء جدا، ركيك يفتقد إلى منهجية العالم)
وأطلقوه عندما بدأ تحرك الباب العالي لدحر نابليون وعساكره، وقرنوا بين هذا التوصيف وقوة الإسلام،
بمعنى إذا كان الإسلام قويا وتصدر المشهد سمى بالإسلام السياسي وإن كان المسلمون ضعفاء يتوارون، سمى بالإسلام الوسطي الجميل !!
ثم يعترف لورانس أن «السياسة الإسلامية» التي انتهجها نابليون طبقا لنصح المستشرقين قد باءت بالفشل..
ذلك لأن حرب الدعاية التي قام بها الباب العالي قد أفسدت مخطط نابليون ومستشرقيه وبات في ذهن نابليون عزمه أو وجوب مغادرة مصر..
ولكن حرص على أن لا يغادر دون أن يزرع نبتة ستصبح فيما بعد شجرة خبيثة طلعها سموم فياضة مازالت تفيض حتى اليوم،
فقد عمل على تأكيد السلطة الدينية لشريف مكة لتصبح مناوئة للباب العالي بل والبذرة التي راعاها الفرنسيون والانجليز معا (المختلفون معا حد التقاتل)..
القومية العربية
وهما من أرسلتا الضابطين سايكس وبيكون لتقسيم البلد الواحد إلى عدة دول في أعقاب الحرب العالمية الأولى،
وليس ذلك فحسب وإنما حتى لا يعود إلى بلاده بخفي حنين، فقد حرص على زرع حضانة جديدة لتكون بديلة عن الإسلام الذي اتسع لكل الألسن والثقافات،
ألا وهي «القومية العربية» ومن بعد نابليون تبنى هذه الدعوة نصارى الشام برعاية فرنسية انجليزية أيضا،
ودعوني أنقل ما قاله لورانس كيف زرعوا الفكرة في النفوس لتصبح نعرة تطلق في ظاهرها الرحمة وفي باطنها الضعف والتفكك والانحلال والانحدار،ولمالا فلم يخلق الشيطان لغير هذا:
«لمس السلطان الكبير (بونابارت) وتر الوطنية العربية، لماذا تخضع الأمة العربية للأتراك؟
كيف تهيمن على مصر الخصيبة، وشبه الجزيرة العربية المقدسة، شعوب جاءت من القوقاز؟
وإذا ما هبط محمد اليوم من السماء إلى الأرض، فإلى أين سوف يذهب؟
هل سيذهب إلى القسطنطينية؟
لكن هذه مدينة دنيوية، بها من الكفار أكثر مما بها من المؤمنين، ووجوده هناك يعني أنه يضع نفسه وسط أعدائه،
كلا إنه سوف يفضل مياه النيل المباركة، وسوف يجيء للإقامة في الجامع الأزهر، ذلك المفتاح الأول للكعبة المقدسة،
عند هذه الكلمات تهللت وجوه أولئك الشيوخ الأجلاء، ومالت أجسادهم ورددوا مكتوفي الأيدي، طيب طيب، آه هذا صحيح تماما»
وللحديث بقية إن شاء الله
Post A Comment: