“مدحت” خمسيني متوسط الطول، أصلع الرأس؛ أبيض البَشَرَة، مائل إلى الامتلاء، موظف بمرور إحدى المناطق بالقاهرة، ومن مستوري الحالة المادية.
لو شاء هذا الرجل لاغترف من الحرام فثبَّط العملاء وعطَّل، وأرجأ المصالح وسوَّف، ولفتح الأدراج، وغمز بالطَّرْف، ولمَّح بالجُمل الرخيصة، والإيماءات المرتشية؛ وحينئذٍ لَعَبَّ من المال عباً.
“مدحت” إنسان سويٌّ منطلق على فطرته، منساب على سجيته، ليس شَغُوفاً بقراءة، ولا مُولعاً باطلاع، إنما هو كَلِفٌ بمجالس تعليم وترتيل القرآن الكريم والعبادات الخفيَّة، فتراه يُكثر الخطى إلى المساجد، يتسمع الأذان، ويتشوف للإقامة، ويتعرض كثيراً لنفحات الصيام.
يرى “مدحت” نفسه مقصراً دوماً، فرغم أن صلاة الغداة لا تفوته فضلاً عن سائر المكتوبات، إلا أنه عقب كل صلاةِ فجرٍ يتذكر دائماً صلوات الصبح التي غفل عنها، وفرَّط فيها حين كان طفلاً، ويافعاً، ومراهقاً، وشاباً.
اعتزم “مدحت” أن يعوِّض الصَّلوات التي فاتته لتقصير منه وتفريط، أو حتى التي لم يدركها لمرضٍ أو تعبٍ أو نوم، فكان يجوب رحاب الجوامع والمساجد بالمنطقة التي يسكن فيها، فيتعرف المساجد التي تُبكِّر بإقامة الصلاة، ويرصد المساجد التي تُرجئ الإقامة قليلاً.
فكان "مدحت" دائماً من المبادرين إلى المساجد المبكرة بإقام الصلاة، ثم سرعان ما ينعطف - جاداً خاشعاً لا مُسرعاً - إلى المساجد المتأنية في إقامة الشعائر.. هكذا كان دأبه في صلواته خاصة في صلوات: الفجر، والعصر، والعشاء.
لاحظ رواد المساجد المبكرة أن “مدحت” لا يختم الصلاة، ويهبُّ مسرعاً إثر التسليمتين، كما لاحظ رواد المساجد المتأنية أن “مدحت” لا يأتي لصلاة السُّنن القَبلية.
هكذا انشغل الناس بـ "مدحت"، في حين انشغل هو بمحاولة جمع الفريضة الواحدة في بيتين من بيوت الله.
وفي لقاءٍ عابرٍ بعد صلاة العشاء جمع "مدحت" - قدراً - بمصلييْن من كلا المسجديْن أمام محل "زاهر للألبان" بمنطقة عين شمس، دار هذا الحديث:
العصار: "مدحت"، يؤسفني أن أراك دوماً حين تصلي معنا عَجِلاً بعد الصلاة.. فلا أذكار، ولا دعاء وخشوع ورويَّة، ولا أنت تصيب شيئاً من سُنن بَعدية!
السباك: وقد أحزنني كذلك أنك يا "مدحت" حين تصلي معنا تأتي دوماً متأخراً، فلا تُدرك تحيَّة المسجد، ولا سُنة الوضوء، ولا السُّنن القَبلية.
مدحت: معكما الحق تماماً.. تعلمان إرهاق العمل، وهموم البيت، ومشكلات الأولاد، وتلبيس الشيطان ووسوسته، وضعف النفس وكسلها، وضغوط العمل وأحكامه.. أسألكما بالله إلا دعوتما لي.
بعد هذا اللقاء، شرع "مدحت" في البحث الحثيث عن مسجديْنِ آخريْنِ، يُدرك فيهما الفريضة المكتوبة مرتيْنِ من دون رصدٍ من أحدٍ أو متابعة.
وحين كان يقابله "العصار" أو "السباك"، أو غيرهما، ويسألانه عن غيبته يتعلل "مدحت" بمواعيد الصيف، ومواقيت الشتاء، ووطأة العمل.. مؤكداً لهما أنه في حاجة ماسَّة إلى دعوة المحبين من إخوانه بظهر الغيب!
قضى "مدحت" زُهاءَ رُبع قرنٍ متنقلاً بين المساجد حتى جاوز الستين من عمره، وكان يُغيِّر المسجد حين يلحظ من أحدهم ملاحقة أو فضولاً.
وفي جنازةٍ متواضعة الاحتشاد والإعداد، إلا أنها كانت مهيبة الجانب، ظللها الخشوع، وجللتها السكينة، اختصم الناسُ بعد الفراغ من الدفن فريقين، أحدهما يقول:
لقد تُوفي “مدحت” - رحمه الله - عقب صلاة الفجر معنا بـ"مسجد التُّقى" بحوالي ساعتين.
على حين كان الفريق الآخر يؤكد: بل قضى - غفر الله له - بعد صلاة الصبح معنا بـ "مسجد الهُدى" بنحو ساعتين!!



Share To: