في سنة ١٩٩٧ م، كنت أدرس في السنة الأولى في جامعة الملك فهد للبترول و المعادن بمدينة الظهران، شرقي السعودية. و في مادة الرسم الهندسي طلب منا أستاذ المادة، و كان بريطاني في الخمسين من عمره، أن ينفّذ كل طالب بعض الرسومات الهندسية ثم نجتمع في طابور أمام طاولته ليصحح الأوراق و يضع ملاحظاته.

كان يقف أمامي طالب يرتدي الشماغ الأحمر بدون العقال و شعر لحيته متناثر بشكل عشوائي. أما الأستاذ البريطاني فكان مَرِحاً مع جميع الطلاب و يشيع جواً من البهجة و العفوية أثناء الدرس. كنت أراه أثناء انتظاري لدوري يشجّع كل طالب بعد أن ينتهي من تصحيح الورقة، ثم يصافحه مع ابتسامة عريضة.

جاء دور الطالب الواقف أمامي و يبدو أن الأستاذ أُعجِب بورقته فشكره و قال له: "أنت رائع. دعني أصافحك". مدّ الأستاذ البريطاني يده تجاهه و لكن الطالب قال "لا".

بقيت يد الأستاذ معلقة في الهواء و كنت أنظر إلى ملامح وجهه تنقلب رأساً على عقِب. لم أفهم في البداية لماذا يرفض الطالب مصافحة أستاذه! و لكن يبدو أن فهم الأستاذ كان أسرع من فهمي، إذ قال بعد لحظات من الوجوم: "هل هذا لأنك مسلم و أنا مسيحي؟"

أجاب الطالب "نعم".

تراجعت يد الأستاذ ببطء. إنها لحظة كتم الغيظ. لم ينفعل الرجل على الرغم من أن الموقف يستحق الانفعال. كان لسان الحال يقول "تتعلّم مني و تحتقرني!"

و رغم الاستياء الذي بدا على وجه أستاذنا، أعاد الورقة للطالب بهدوء و قال له تفضل.

جاء دوري و ناولت الورقة للأستاذ بصمت. قام بتصحيحها و رغم علامتي الجيدة إلا أنه لم يطلب مصافحتي. مددتُ يدي إليه و قلت "سأكون فخوراً بمصافحتك يا أستاذ".

نظر إلي قليلاً و صافحني. أضفتُ: "أرجو أن لا تظن أن كل السعوديين هم مثل هذا فأصابع اليد الواحدة تختلف".

كان هذا كل ما استطعت قوله و فعله و أنا في ذلك العمر... بدأ يسألني من أين أنت؟ و أين تسكن؟ بادلته الحديث قليلاً ثم عدت لمقعدي.

تغيّرت شخصية أستاذنا البريطاني منذ تلك اللحظة إذ خفّ المرح و التبسّط في الكلام مع الطلاب. مرّت عشرون سنة و لم أنس ذلك الموقف!



Share To: