رواية "ست الحسن في ليلتها الأخيرة"
رواية الوطن الذي لا يتوقف عن النبض
بقلم الروائية / سلوى البنا
قراءة / أيمن دراوشة
الناشر / دار الفارابي بيروت – 2017م.
تمتلك الروائية مخيلة لا تنضب، وتمتلك تقنيات الكتابة الروائية باقتدار، تتدفق لغتها الشعرية كشلال لا يتوقف. 
ليس من السهل أن يقرأ الشخص رواية عجيبة وغرائبية متقنة بهذا الشكل، وكأنها لوحة مرسومة بألوان الفرح والدم.
تبدأ الرواية بتوطئة غريبة ولا معقولة، إذ البداية عبارة عن تعريف بالشخصية الرئيسة عبر محاكمتها في يوم 31-2-2016م، وبالتأكيد هذا اليوم لم يوجد قط.
منذ البداية ظهرت وردة (ست الحسن) كفتاة جميلة تشبه القمر، يانعة، بدت في القفص الحديدي "بشعرها الأشقر الطويل المنسدل على كتفيها كشال حريري يغطي مرمر الصدر" باهرة الجمال. (ص 2)
يسألها القاضي: كيف قتلت الشيخ فواز؟ وهل قتل قبل أو بعد الدخول بك؟
بهذه البداية الموفقة، تشد الروائية القارئ إلى الغطس بأحداث الرواية المتشابكة والممتزجة.
هي حكاية وردة (ست الحسن) وحبها منذ الطفولة لحسن، يكبر الحب وينمو حتى يصل إلى مبتغاه بالزواج.
إنَّ الرواية لا تتابع سيرة حياة وردة وحسن، بل هي "رصد لحيوات متعددة في الوقت نفسه. إنَّ زحزحة الحبكة وتشعب السرد وتقويض الإيقاع المنتظم للزمن. يحرر العملية السردية من خطيتها ونمطيتها" (سعيد بوعيطه. السرد الروائي في رواية رجال وكلاب. في: سعيد بوعيطه وآخرون. أسئلة الرواية المغربية. الدار البيضاء: منشورات دار القرويين. ط1. 2012م. ص 18). 
تمتاز الرواية بشخصياتها الكثيرة، وعلى الرغم من حجم الرواية المتوسط إلا أَنَّ الكاتبة برعت في رسمها وبدتْ وكأنها حيّة في ذهن القارئ، بعض شخصيات غرائبية وكأنها خرجت من رحم ألف ليلة وليلة، ومن بطن الأساطير.
تتبنى الخالة شهلة وردة بعد موافقة أمها وأبيها الذين أنجبوا الكثير من الأولاد، وكانت شهلا وزوجها قد عجزا عن الإنجاب.
تتربى وردة بدلال في كنف خالتها وزوجها نور، وتقع في حب ابن الجيران حسن، وتبدو القصة للوهلة الأولى مكررة ومملة غير أنَّ الكاتبة جعلت من هذه الحادثة البسيطة رواية متقنة، ومبتكرة وأصيلة، فهي رواية الأصوات الكثيرة المتداخلة، بل إنَّ الجسد نفسه يقبع فيه في مشاهد أَجساد أخرى. 
ترتكز الرواية على تقنية التداعي الحر، والحقيقة بهرتني الأحداث، ومهارة الروائية في غزل جرزتها الروائية مختلفة الألوان. وهذا وهب الروائية إمكانيات شتى لتشكيل المادة الحكائية، من خلال السرد الغرائبي الذي وضعنا في عالم لا واقعي وغامض.
إنَّ الرواية هي رواية نفسية تبحث في أعماق النفس البشرية، لذلك لجأت سلوى البنا في الكثير من المرات لاستخدام تقنية الاسترجاع، وهي تقنية من تقنيات الحوار الداخلي، وتكثر الشخصيات من هذا الأسلوب وخاصة ست الحسن والشيخ فواز والعبد ميمون...، وتقوم التقنية على استرجاع أحداث ماضية عاشها الشخص في طفولته وشبابه، وتعمل على  إضاءة مساحة من حياة الشخصية في الماضي، فتخبرنا الشخصية من خلال الحوار الداخلي عن ذاتها ومشاكلها وأحلامها، والاسترجاع "قطع يتم  أثناء التسلسل الزمني المنطقي للعمل الأدبي يستهدف استطرادًا يعود إلى ذكر الأحداث الماضية". (سعيد علوش. معجم المصطلحات الادبية المعاصرة. الدار البيضاء: منشورات سوشبريس، ودار الكتاب اللبناني. ط1، 1985م، ص 97).  وتقنية الاسترجاع تساعد في اشعال نبض الحدث الروائي، وهو استرجاع عن وعي لأحداث سابقة من أجل إعادته من اللاشعور إلى الشعور.
تصف الروائية حب حسن ووردة منذ الطفولة "يمسح بأصابعه على شعرها. يتملكه إحساس عارم بالرجولة. وهذه الوردة التي لا يتعدّى عمرها السنوات العشر تتنفس الطمأنينة على صدره... وكأنه يكبرها بعشرين سنة أو أكثر. لا بسنتين فقط" (ص 5) وتضيف هذا الإحساس "يتدفق في شرايينه إلى حدّ أنه لم يعد معه قادرًا على تقبيلها. وإنْ اشتهى شفتيها بجنون". (ص 5) وأَيضًا: "تساءل وهو يلتقط بقلبه أنفاسها الدافئة، والعابقة بعطر الياسمين "لماذا تغفو وردة فجأة على صدره قبل أَنْ ينهي لها الحكاية". (ص 5)
أَمَّا وردة فتعبر عن حبها بطريقة جميلة، تقول: "لا أَعرف متى رأيت حسن لأول مرة. يُخيَّل لي أَنني وهو ولدنا معًا، ومن رحم واحد. توأمان عاشقان". (ص 20)
هذان لتوأمان لا يمكن فصل أَحدهما عن الأخر "يموت واحدها إن تمّ فصله عن الآخر، ويموت الآخر كمدًا وحسرة!؟ حسن توأم قلبي وروحي. إن شكتني شوكة في قدمي، أَحرق لأَجلي كل أَشواك الأَرض". (ص 20)
وعندما تخبر وردة خالتها إِنَّها رأتْ بالحلم حسن يتأَبط ذراع أُخرى، قالت لها: "بينك وبين حسن رباط لا يقوى على فكه الموت". (ص 44) لا أَحد ينافسك في حب حسن غير أَرض الشام وهذه لا خوف منها.
تظهر الخالة شهلة امرأة محبة وحنونة وقوية، وسعيدة في حياتها مع زوجها نور الضابط الشرس الذي خاض الحروب وما زال يحارب خفافيش الليل الذين هجموا على الوطن من كل حدب وصوب.
لذلك لم يعترض عندما تقدم حسن لخطبة وردة، رغم إنَّ حسن مهندس حالم، التحق بالجيش، والحرب الهمجية على الوطن تحاول التهامه، فهو يعرف قيمة الوطن، وإنَّ الذي يحافظ على أرضه سيعرف ولا شك كيف يحافظ على بيته وزوجته.
تتدحرج الحكاية التي ليس لها ترتيب زمني، إذْ يختلط الزمن حسب التداعي الحر لشخصيات الرواية، وقد نجد عدة أَزمنة في الصفحة واحدة.
الشخصيات الشريرة في الرواية تمثلت بالشيخ مقبل، الذي كان سيِّدًا قاسيًا يذق عبيده العذاب، وكان كل ما يرى امرأَة جميلة يضمها إلى جواريه بالقوة.
من ليليانا الجارية الأثيوبية أنجب فواز ولكنه لم يعترف به، بل زوجها من أحد عبيده سطام، وسجل فواز على اسمه، عندما كبر ظل يعاني من عقد نفسية رهيبة حطمت حياته وحياة من حولة، فأمَّه الجارية وبعد أن ملَّ منها الشيخ مقبل اشعلت النار في نفسها، ولم يغيب يوما عن الشيخ فواز ظل أبيه الصارم، ولا أمه الجارية المنتحرة. الوحيدة لتي هزمت الشيخ مقبل هي نائلة التي جلبها من اليمن، إذ لم يستطع أن يروضها فاغتصبها، ولقى بها في البئر، ولكنها لم تمت قبل أَنْ تضع مولودها "حجل"، أَمَّا العبد الأسود العملاق ميمون فقد أَخصاه الشيخ مقبل بعد أَنْ وقع في عشق أحد الجواري "سيلينا" وقتلها.
الشيخ فواز وبسبب حياته المعقدة، عاش مرتعبًا من والده الحقيقي، ومحتقرًا سطام الضعيف والعاجز، لذا في أول فرصة قتل فواز والده واستولى على أَملاكه، وكان قد تزوج من امرأة بشعة وللمفارقة اسمها "مزيونة" ولكنها كنت ابنة شيخ واسع الثراء، فأصبح الشيخ فواز يحوز ثروة طائلة، وسلطة مطلقة، لذا وبعد عثوره على ست الحسن، تخلص من مزيونة بقتلها.
الشيخ فواز الذي يملك الكثير من الجواري وله جولاته الجنسية العظيمة، بهره جمالها الساحر، وكان عثر عليها أحد القوادين في أحد الأنفاق التي يبدو تم تفجيرها مما أَدَّى لمقتل الخالة شهلا، وكانت ست الحسن قد فقدت أَيضًا زوج خالتها الذي مات على فراش المرض وهو المحارب الشرس. باعها القواد إلى الشيخ فواز، الذي أخذها إلى قصره وهو يحلم بمضاجعة امرأَة فائقة الجمال.
وكانت المفاجأة، إذْ بعد محاولات شتَّى، يقول الشيخ فواز:
"هي ست الحسن هذه بشعرها الأشقر الطويل حتى أَسفل مؤخرتها، وعينيها الفيروزتين المحاطتين بسنابل من القمح براقة، تتحدى رجولته كل ليلة". (ص 15)
يعض بقسوة على شفته السفلى فيجرحها، ويضيف: "كل هذا الفيض من الذكورة ينطفئ عند أول لمسة ويتلاشى". ( ص15) ولكنه لا يكف عن المحاولة ويستعين بزوجته مزيونة التي تتصل بساحرة التاريخ "عفرين" ولكن دون جدوى.
ويبقى يردد كل ليلة، إنَّ الليلة لن تفلت ست الحسن من قبضتي. وعندما يحين الليل يتفقد ذكره المنتصب، وعيناه تتقدان شهوة، يعريها، وينظر إلى الجسد الطري، فتنطفئ جمرته، ويتهاوى كجثة بجانب السرير.
فست الحسن أَبدًا لم تستطعْ نسيان حسن، بعد أَنْ استشهد في حد معارك الوطن ليلة عرسها، وبقيت عصية على الشيخ فواز لأَنَّ عقلها وقلبها أخذهما الحبيب حسن.
لقد أَصبغت الروائية على ست الحسن صفات الأنثى ذات السحر الأَخاذ، ودمجت بينها وبين الوطن، فعندما يسألها حجل من أَين أَنت أَيتها المهرة البريّة؟" يُخيّل إليّ أحيانًا أنك ولدت لنجمة في سماء بعيدة، من قمر دفع عمره مهرًا لليلة واحدة". (ص 50)
تجيب:
"أنا الوردة المخطوفة من أرض غاباتها أرز وصنوبر، وعطرها مزيج برتقال وليمون وياسمين...  وبراريها تفوح بالزعتر، وتلوّنها أَزهار الختميّة وعبق الحبق الأخضر الهفهاف. وتغرّد في سمائها طيور الحب..."أَنا أغنية العاشقين على شواطئ بحرها. صدور بحارتها. وفي شباك الصيادين. وأَنا الدفء في عيون الصبايا، وقطرات الندى في جباه الفلاحين". (ص 58)
ويصفها كبير القضاة بأَنها جنية ماكرة " تتلاعب بعقولنا وعواطفنا". (ص 69)
ويطالب الحضور قائلًا: "لا أَحد منكم يستسلم، لتهويماتها الملعونة. هذه الساحرة، ترتدي قُفَّاز وردة، وتتقنَّع بوجه ستّ الحسن... تذكَّروا كلما حاولت أَنْ تخطفكم لمملكتها المسحورة، إنَّها قاتلة سيّدكم فواز". (ص 69)
وكانت العرافة قد قرأت خطوط كفّ ست الحسن وهي صغيرة، وقالت: سيجتاحك الطوفان، وتتخاطفك الغربان، وسيتوزع لحمك على كل الموائد، ومن ذاقه انسعر. وسيبقى أَنينك وجعًا تحت الأَضراس إلى يوم الدين". (ص128)
ومن اللقطات التي يحلق فيها خيال الكاتبة في جلسات المحكمة، قولها:
"سقطت دمعة من عيني وردة على أصابع ميمون... لسعت قلبه الدمعة. انتفضت أَصابعه برقصة الموت. فبدت وردة كنجمة تشعّ في سقف القاعة الواسع. وبدا كما لو أنها الوردة التي تحاكي في لونها الشهب. شهق الحضور في القاعة... وراحت أعينهم تلاحق تلك النجمة المعجزة". (ص 132) فصرخ أحد الحضور: "بركاتك ستّ الحسن".
وفي النهاية يشترك ميمون وحجل في قتل الشيخ فواز وتخليص الناس من جبروته، بعد أن حاول أن يقتل ست الحسن، أغمي عليها، وتدخلت الداية حليمة، وسكبت كوب ماء ممزوج بعطر الياسمين. ابتسم حجل وصفق، وقال: "هزمت ست الحسن الغربان". (ص 152)
واستسلمت وردة لآلاف السواعد التي رفعتها على الأكفّ وسط إيقاع خطوات كأنها أهزوجة مطر أو زفّة عريس.
انشقّ ضوء صغير جدًّا من كوّة في الجدار. فعبرته وردة وكأنها الطيف. (ص 153) 
في المحكمة اعترف ميمون بقتله الشيخ فواز، وكذلك فعل حجل، وحضرت النساء الثلاثة (نائلة، وليليانا، وسيلينا) وشكلن حلقة مغلقة حول كبير القضاة.
قالت نايلة بكبرياء وشموخ: "أنا من قتل الشيخ فواز". (ص 149)
ردّت سيلينا بحقد يضاهي الفزع في عينيها: "وأنا مَنْ فصلَ رأسه عن جسده". (ص 149)
صرخت ليليانا بجنونها المعهود وأنا بترت كنزه الثمين وعلّقته له فمه". (ص 149)
وتشابكت أَيديهنَّ في رقصة جنائزية شلّت حواس كبير القضاة وارتجف لها قلبه. 
ففي النهاية لا فرق بين مجرم ومجرم كلهما شخص واحد، وبقتل الشيخ فواز كان للأرض أَنْ تتحررَ وتتنفس حرية.
تبقى الرواية حيّة ومشوقة حتى آخر صفحة منها، وتكون المفاجأة الصادمة، تقول الروائية في نهاية روايتها: دوَّى صوت انفجارات متلاحقة، خافت شهلا، طمأنها نور إنها عبارة عن مفرقعات يلعب بها الصبية، وضحك واحتضنها، وذابت على صدره، فحذرها بأنهما ليسا وحدهما، عندها نزعت نفسها من حضنه، ودنت من السرير الذي تغفو عليه صبيّة كأنها البدر.  رفعت من على جبين وردة المتوهج بالحمّى كمادة الثلج ووضعت مكانها الأخرى.. وهي تردّد بحزن شديد "طالت غيبتها عنّا يا نور... اشتقنا لوردة". (154)
ارتعشت عينا وردة المغمضتين منذ ألف ليلة وربما يزيد (هنا يظهر أنَّ الكاتبة تتحدث عن الشام الحبيبة، التي وكأنها غائبة عن الوعي، وقد دخلها كل قطاع الطرق من كل مكان). وصاحت شهلا:" يا حسن".
تحركت شفتا وردة، وبدا كما لو أَنها تريد أَنْ تقول شيئًا.
"وضع حسن أَصابعه على شفتَيّ وردة. ارتعش قلب حسن، اقترب بوجهه من فمها وهمس "حمدًا لله على سلامتك وردة"". (ص 154)
وعندها وقفت شهلا على بوابة البيت المزنّر بالياسمين. ونادت بأعلى صوتها: "عادت لنا الوردة". (ص 154) فرغم كثرة اللصوص، ما زال هناك أُناس قادرين على حماية الأمانة (الوطن).
لم تكن الرواية إلا كوابيس متلاحقة طاردت وردة (ست الحسن) التي كانت بغيبوبة لا نعرف زمنها، لقد نجحت المؤلفة في شد القارئ حتى آخر كلمة، مع قفلة مدهشة ستبقى في ذهن المتلقي فترة طويلة.
-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-
تقع رواية «ست الحسن في ليلتها الأخيرة» في 240 صفحة، وللمؤلفة سلوى البنا إصدارات عديدة منها روايات: 
1- عروس خلف النهر.
2- الآتي من المسافات.
3- مطر في صباح دافئ. 
4- - امرأة خارج الزمن.
5- 5- عشاق نجمة.



Share To: