محاولة في كشف المسكوت عنه في ملحمة جلجامش.
*يتحرش شوقي كريم حسن وروح التحرشية من سمات شخصيته الراسخة حتى على المستوى السلوكي، وقد رمته في الكثير من المهالك ليس اقلها حالات السجن المتكررة، وأفضل الدلائل عليها هو أن هذه المسرحية مالم يره الغريب جلجامش. قد كتبت في سجن أبي غريب الرهيب، وتحديداً في قسم الأحكام الخاصة المخصص للجرائم الخطيرة والتي تصل احكامها الى المؤبد، او الأعدام المؤجل، هذا القسم ذهبت اليه مرة واحدة في العام ٢٠٢٠ عندما طلب مني الناقد سليم عبد القادر، الذهاب معه لرؤية ابنه الوحيد المسجون هناك، فكفرت لكل شيء بهذا العالم الجائر، وظلت المشاهد التي رأيتها تلاحقني حتى هذا اليوم... واقول(يتحرش) شوقي كريم لآن هذا الفعل هو الفعل الملائم الذي يصف جسارة الكاتب الذي يحاول التقرب من(ملحمة جلجامش) لتقديم معالجة جديدة لها،فكيف به وهو يحاول قلب الملحمة على بطانتها كما يقول الوصف الشعبي، فملحمة جلحامش هي درة تاج أساطير البشرية، وهي ليست كما وصفها الاستاذ الباحث(طه باقر) في ترجمته لها بأنها(اوديسة العراق) لان الوصف الاول ادق هو أن الأوديسة هي ملحمة جلجامش اليونان، يظهر تصميم شوقي العالي وقصديته المحكمة في الكثير من مكونات هذا النص المسرحي، فالعنوان اختاره لمسرحيته وهو(مالم يره الغريب جلجامش) هو عنوان يحيلنا الى العنوان المركزي لملحمة جلجامش(هو الذي رأى كل شيء) والذي يثير مفارقة حادة تتمثل في ان هذا الشخص الذي يوصف بأنه رأى وعرف كل شيء... لم يعرف. ولم ير المعظلة الأساسية الرهيبة التي تمس صميم وجوده،والتي تتمثل في فنائه الشخصي، كانت الفطرة عونا للكاتب القديم، لكنها قد تكون عبثا على الكاتب الحديث.. فالنص الحديث يكتب بتخطيط مسبق يجعل لكل شيء فيه دورا ووظيفة، ويتضح ذلك في مسرحية شوقي هذه، فقد كان العنوان مدروسا ومحملا بالدلالات المرتبطة بوقائع المسرحية من جانب ،والتي تقلب معطيات الملحمة الاصلية من جانب اخر ، كما ان شوقي قد اختار عبارة لشكسبيرافتتح بها مسرحيته(أيتها الشمعة الصغيرة
انطفئي... انطفئي
مالحياة إلاظل سار..
ممثل مسكين
يتبختر على المسرخ، مضيعاً وقته
ثم لايسمع به ابدا
انها حكاية أبله
مفعمة بالصخب والعنف
وهي لاتعني شيئا)
وهو مدخل موح ومنسجم مع ما ستأتي به المسرحية من افكار وتأملات، كما أنه يهيء القارىء نفسيا وذهنيا ً لاستقبال الموقف الشائك من محنة الموت والحياة ، ولاحظ أن هذه العبارة تتضمن عنوان رواية وليم فوكنر الشهيرة(الصخب والعنف) وهي الرواية التي تدور حول الموت والخراب ايضاً.
والمشكلة ان الملحمة الاصلية تبدأ باستعراض صفات جلجامش الخارقة بصورة تسمو فوق البشر العاديين، وتضفي عليه بعضا من اسماء (الآلهة) الحسنى(الرائي.العارف.. الحكيم.. المبصر..المقدم..
الحامي) وغيرها.. ولاحظ أن مجلس الآلهة قد منح الاله(مردوخ) خمسا وخمسين اسما من اسماء (الآلهة) الحسنى مقابل ان يخلصهم من طغيان الالهة( تعامة) ومن اسمها اشتق اسم الصحراء(تهامة) ولكن هذاالذي يمتلك كل هذه السمات الخارقة، يعيش مفارقة اكثر حدة، وهي ان ثلثيه إله والثلث الباقي بشر، ولكنه يموت، فما الفائدة؟
هذا ما يثيره شوقي كريم بصورة ماكرة عندما يجعل من جلجامش ياتي الى الجد الخالد(أوتونبشتم)في(منفاه) الفردوسي ليطلب منه عشبة الخلود، ولكن في ظل وضعية مغايرة تختلف عن الموقف المرجعي، حيث يتسائل نفسه بعد حوار مطول مع اوتو نبشتم( اي لعبة تعيش، يامن تبحث عن وهم، سميته الخلود.. وهم جرك الى فراغ شاسع موحش، او تقدر مادمت قويا على تغيير إرادة الأرباب، وطي عجلة المصير الذي ينتظر الإنسان وأيقافها لتضع له مصير اخر..اوتقدر انت وحدك على مخالفة ما قرره مجلس الآلهة؟
وما ادراك أن غيرك يسعى باتجاه ماتبحث عنه؟(يصرخ متحديا العاصفة) كل شيء كاذب.. كل شيء كاذب (صوته يتردظ في الفضاء الى ان يتلاشى رويدا)).
وفي هذا المشهد الذي ينفض فيه جلحامش يديه من لعبة عشبة الخلود، ولا يقع ضحية لعبة الأرغفة السبعة الأكثر مكرا، ودهاءالأفعى التي سرقت العشبة بعد أن قرر جلجامش الإغتسال تاركا إياها على الشاطيء، بل يرد عليه آتونبشتم بأن لايبحث عن العشبة لأن الخلود مقيت ومنغص وباعث على الملل، أقول بخلاف الاسطورة تتفتح بصيرة جلجامش على تساؤلات جديدة محيرة. ان توظيف الأسطورة. وهنا واحدة من مواقع امتياز جهد شوقي كريم.. يجب ان يخدم الموقف النفسي الراهن لنا ، كمتلقين، ويكون مفتاحا لمعالجة المعظلات الوجودية الكبرى التي نواجهها، يتجسد هذا وببراعة في التفاتة غريبة يسأل فيها جلجامش آوتونبشتم عن الكيفية التي عاد بها الشر الى الوجود اذا كان (هواياتونبشتم وهو نوح البابلي الذي سبق نوح القرآني) قد حمل في الفلك الذي صنعه بإشارة من الإله،أيا ، الإله المحب للبشر ، كل خيار الارض، ان محاولة شوقي كريم العزوم هذه تثبتج أن الاساطير ملقاة على الطريق.. مستعيرين تعبير الجاحظ الشهيرعن المعاني، وأن ما ينقصنا هو الرؤية الأبداعية الثاقبه التي تتيح للكاتب اكتشاف مضامين واشكال غير مكتشفة(ووقف بيننا ولمس ناصيتنا وباركنا قائلا..
لم يك اوتونبشتم قبل الان سوى بشر..
ولكن منذ الان سيكون أوتونبشتم وزوجه مثلنا نحن الآلهة.
وسيعيش اوتونبشتم بعيدا عند فم الانهار
ثم اخذوني بعيدا..وأسكنوني عند فم النهر).
Post A Comment: