دخل سنّ الشكّ أخيرا،
سقطت حكمته التي كان يطحن بها المنطق،
صار يشير إلى الأشجار إذا سألناه عن بكاء الحطّابين،
ويشير إلى المصابيح إذا سألناه عن دموع العميان.
أصبح يمشي فوق الماء،
ويعطي مطريّته للأمطار، حتى لا تبتلّ به.
أصبح يتدثّر بالريح،
ويعطي قبّعته السعفية للشمس، حتى لا يلفحها هجيره.
سألناه عن حكمته الضائعة، وقلنا له نعرف دكتورا يمكن أن يركّب له حكمة ذهبية، إن شاء.

لكنه كان يمضغ الهواء الساخنَ بفمه الأدرد،
ويصنع منه إجابة باردة،
تفتح طوفان شكّ على كوخ يقيننا المتداعي.

كان يذهب دائما، ولا يختفي.
وكان يعود، فنختفي نحن.

تبعناه في المسرب الذي كان يذهب فيه وقت الغروب،
وراقبناه من وراء أغصان فضولنا:

رأيناه ينزع عنه ظلّه تحت ضوء القمر،
ثمّ يسنده على صخرة،
ويطعمه الضوء،
ثمّ يعيد إلصاقه بقدميه.

رأيناه يغسل روحه بالحفيف،
ينزع عنها الأشجار الميّتة،
ويزرع فيها أشجارا تُزهر للتوّ.

رأيناه يُخرج قلبه من صدره،
يضع فيه حفنة رمل،
ثمّ يديره بين أصابعه على شكل ساعة رملية،
وحين تنسرب آخر حبّة رمل من الجهة السفلى إلى الجهة العليا،
كان يقول: 
- الآن حانت ساعةُ الشّكّ.

رأيناه ينزع صوته عن حنجرته،
يغسله في نهر الصمت،
ينشره للريح حتى يجفّ، 
وينادينا بصوت أبيض طاهر
يقول: اخرجوا من مخابئ فضولكم.
لا نجيبه،
لكننا لا نقاوم عزف مزماره،
نتبعه إلى النهر،
نسمعه يتحدث كلاما غامضا،
يقول:
أنا ظلّ الشمس على الأرض،
أنا ضوء المصباح الكفيف في السماء.
سترون كيف يغرق النهرُ في بكائي
وكيف تتيه الصحراء في حيرتي.

كانت كلماته لها مذاق الجبن المملّح،
فانشغلنا بقضمها، 
ولم ننتبه لرحيله عنا.

صرنا الآن، إذا حاولنا تذكّره نصاب بالنّسيان،
وإذا أردنا اغتيابه نصاب بالخرس،
وإذا حاولنا أن ندلّ أحفادنا على الطريق التي كان يختفي فيها، نُصاب بالتيه،
وإذا حاولنا البكاء على قبره المنسيّ نضحك،
دخلنا سنّ الشكّ،
وتساقطت حكمنا من أفواهنا،
وبدأنا في سرد سيرنا بأفواه درداء،
لكننا لم نمتلك القدرة مثله على نزع ظلالنا تحت ضوء القمر، وعلى غسل أرواحنا بالحفيف، وتحويل قلوبنا إلى ساعات رملية..
وفي المرّة التي حاولنا فيها أن نُغرق فينا النهر، غرقنا في النصف الفارغ من الكأس.




Share To: