كانت "أم هالة" تستيقظ قُبيل الفجر، تتوضأ فيتوهج وجهها، وتتألق أساريرها، وتنشط جوارحها، تصلي رغيبتي الفجر وفريضته.
وحين تنتهي "أم هالة" من الصلاة كانت ترفع يديها الوضيئتين ضارعةً إلى الله أن يحفظ لها ابنتها "هالة" اليتيمة، وأن يجعلها عوضاً لها عن أبيها الراحل.
بعدها تصلي "أم هالة" على النبي صلاة نابعة من الفؤاد، رقراقة على اللسان، ثم تنهض ناشطة تعجن دقيقها، وتُخمِّر عجينها، ثم ما تلبث أن تقرصه (تقطعه) مجتهدةً متحريةً ألا تُخسر الميزان.
قضت "أم هالة" نحبها، فأوفت ولم تكسل ولم تتوانَ، وورثتها ابنتها "هالة" فكانت نموذجاً في إخلاص التوجه، وحيوية القصد، وإدراك السَّحَر والبكور، وأضحت "هالة" مثالاً في الصلاة القانتة وإن قصُرت، ونموذج العمل الدؤوب الطويل وإن كان شاقاً.
دأبت "هالة" على أن تقوم قبل أن يُسفر فجر اليوم الجديد، فتصنع صنيع أمها الراحلة، من عَجْنٍ وَلَتٍّ، وقَرْصٍ وقَطْعٍ، ثم تترك العجين، وتنتظر تخمُّرَه وعُلوه، وتترقب إناه ونضجه.
ثم مع إشراقة الصباح وصياح الدِّيَكة تبدأ "هالة" الخَبْز، ثم تعمد بعد ذلك لقَدْرٍ من الخُبز تجففه، ثم تحمل طاولة الخُبز المُسجَّى بقطعة كبيرة من القماش كانت دوماً في بياض اللبن وحنان القطن، تتعاهدها "هالة" بالغسل والتنظيف.
كانت طاولة الخُبز تحفل دائماً بالخبز بنوعيه الغض الطري والمحمص الجاف، مع أكياس بلاستيكية بيضاء شفافة، ثم ترفع هالة الطاولة على رأسها فتذهب بها إلى محطة الركوب والمواصلات حيث أسراب الذاهبين لأعمالهم والمنطلقين إلى مهامهم.
وفي المحطة كان يجول "حسن" بالسميط والقرص والبيض، حاملاً سَبَتاً ضخماً قد ثبَّت فيه عدة عِصِيّ ليضع دوائر "السميط" بها.
وقد غَلَّفَ "حسن" السَّبَتَ بقطع من القماش قوية، وجعل فيه مكاناً آمناً للبيض المسلوق، وخصص بجواره حافظة تحتوي على قراطيسَ جِدّ صغيرة تحوي ذرات من الملح والشطة والكمون، وبجوارها حقائب بلاستيكية بيضاء لبيع السميط والقُرَص.
أُعجب "حسن" كثيراً بـ "هالة"، كان يراها مثالاً للجد وتحمّل المسؤولية، كما جذبه إليها أنوثة آسرة لم تتوارَ مع سياطِ شمس الصيف الملتهبة، ولم تقلصها غيوم فصل الشتاء وبرودته القارسة.
وزاد من إعجاب "حسن" بـ "هالة" أن كانت لا تقبل مزاحاً من أحد، ولا ترحب بحوارٍ من دون داعٍ، فضلاً عن أن تسمح بنظرات إعجابٍ سخيفة، أو كلمات غزلٍ عابثة!
وفي الجهة المقابلة من موقع "هالة"، كان يقف "فتحي"، بائع الجبن والزبد واللبن، حين يفرغ من البيع لزبائنه كان يرمق هالة بنظرات الخاطب إن تفرس مخطوبته يُمني النفس ويُشهيها.
أُعجب "فتحي" أيما إعجاب بـ"هالة"، ووجد فيها ضالته التي قد تخفف عنه متاعب تجارته، فبزواجه منها ستشاركه حياته فتريحه كثيراً من وقفته بساحة المحطة التي كثيراً ما ينفلت منها ليغشى المقهى ويجالس أصحابه ويدخن معهم النرجيلة، ثم مَنَّى "فتحي" نفسه بأن تأتي "هالة" إليه بحصاد تجارتيهما مع المساء زوجة تؤنسه وتبهجه وتهنئه!
بعد أن قبض "حسن" مبلغاً كبيراً إثر "جمعية" كان دوره فيه الأخير، وجد الشجاعة من نفسه في أن يتقدم لخطبة "هالة"، ناوياً أن يجعل عملها بعد الزواج مقصوراً على العَجن والخَبز في البيت، ثم ينهض هو وحده بعد ذلك بتبعات بيع الخبز وترويج القُرَص والبيض.
سبق "فتحي" غريمه "حسن" في التقدم لخطبة "هالة"، وحين فوجئت "هالة" بطلب "فتحي" قالت له في حياء: أمهلني لأفكر، ثم أرد عليك.
وحين أوت "هالة" إلى فراشها مساءً، تملكها تفكير طويل، وبدا لها في "فتحي" الرجل الذي سيُغنيها ويكفيها، وربما منعها مَشَاقَّ العمل، وإرهاقَ العَجنِ واللتِّ، وطول السَّهَر.
وفي الصباح، حين أقبل "حسن" على "هالة" يحييها تحية الصباح متعللاً بالسلام؛ ليحدثها في رغبته بالارتباط بها، استبقته "هالة" بعد أن ردت عليه تحية الصباح قائلةً:
هالة: ابن حلال، كنتُ أريد معرفة رأيك في "فتحي" فقد تقدم لخطبتي؟
حسن: فتحي؟
هالة: نعم.
حسن: متى وكيف؟
هالة: أمس فقط.
حسن: وما رأيك أنتِ؟
هالة: أنا أُفكر مترددةً.
حسن: صلّي ركعتين، ثم سلي اللهَ أن يوجهكِ لما يحب ويرضى.
وفي المساء، وبعد أن انتهت هالة من أعمال البيت، صلَّت العشاء، وأتبعتها بركعتي الاستخارة، ثم اضَّجعت في فراشها فرأت أمها في المنام، فقالت لها: أمي، أحتاج إليك.. قد تقدم إلي "فتحي"، أخبريني..
فإذا بأمها لا تَكَلَّم بل تُمسك قطعة زبد فتفتحها ثم تلقي بها، وتأخذ قرصة تشبه قُرَص "حسن" فتطعم قطعة منها وتُعطي باقي القُرصة لابنتها هالة.
أفاقت "هالة" على هذه الرؤيا، ولم تفهم أسرارها، فذهبت مبكراً بعد أن انتهت من عجينها، إلى جارة لها عجوز طيبة، فقصت عليها الرؤيا لتعبرها لها، فقالت لها العجوز:
العجوز: يا ابنتي، حين تذهبين لبيع خبزك، اشتري قطعة زبد من "فتحي"، ولا تأكليها ولكن افتحيها وتفحصيها جيداً.
هالة: ثم.. ماذا؟
العجوز: إن وجدتيها زبداً خالصاً تزوجي "فتحي"، وإذا ألفيتِها مغشوشةً فارفضيه.
بادرت هالة بشراء قطعة زبدٍ، وحين فتحتها لاح لها شيء يشبه البطاطس المهروسة أو الدقيق المعجون، ثم نادت هالة على "حسن" وقصَّت عليه خبرها، ثم قالت له ماذا أصنع؟
حسن: تَفَهَّمي جيداً إشارة أمكِّ وتأويلَ العجوز.
هالة (مبتسمة): لكن ماذا آكل إذا ألقيتُ قطعةَ الزُّبد؟
حسن (متهللاً): هذه سَلَّتي وكُلُّ مَتَاعي!!
هالة (ضاحكة): هذه مُنيتي وحُلم حياتي!!



Share To: