ومن الحُبّ ما قتل ، نعم فقد يكون الحُبّ قاتلاً عندما لا ينساب بين أطراف العلاقة كالماء الرقراق بصدق وعفوية ، وهو قاتل عندما ينظر أحد الأطراف إلى صميم العلاقة وفق معايير المنفعة الخالصة ، مستغلاً كلّ ما في الطرف الآخر من رغبة لإرضائه والحرص على نجاحه وسعادته ، فهو يعرف تمام المعرفة أنّه يتقدم عند الطرف الآخر على نفسه ، فقد ذابت ذات الأخير في المحبوب حتى عميت عيناه عن نفسه ، وصار يراها من خلال عينيّ محبوبه ، فنظرة الرضى وابتسامة ساكنة  منه تساوي الدنيا وما فيها ، وإذا ما انفعل غضباً ، أو أشاح بوجهه رفضاً ، فإنّ العالم يتهاوى وشعور الذنب والتقصير يحتلّ كيانه ، فيسرع لإرضاء الأول والانصياع لرغباته ، فما تلبث ابتسامة ساكنة أخرى أن تشق طريقها عبر وجهه الخالي من التعابير ، ليتأكد الأول واهماً  أنّ العالم قد عاد بين يديه مرة أخرى  ، ومع مرور الوقت فإن المحبوب يصبح أكثر اعتماداً على شريكه فهو يملك مفاتيحه ويتقن استخدامها ، فقد تكون كلمة واحدة كفيلة باستسلام الآخر واستعداده لتلبية رغبات الأول ، ولشدة احتراف الأول بمعرفة مداخل الآخر وإدراكه لحجم وجوده في حياته ، فإنه يلجأ في بعض المواقف إلى تهديده بحرمانه من رؤيته ، أو الإعراض عنه ، أو التلويح باتهامه بأنه لا يمنحه الحبّ الذي يتوقعه ، إنها حالة اعتادها الاثنان على مدى سنوات ، وهما يعيشان معاً دون أن يشعر أي منهما بوجود نيّة شائبة في تلك العلاقة ، وكأنها حالة طبيعية من التعايش .
إنّ المشهد لمن يتصوّره يكشف عن علاقة مختلّة يبتزّ فيها طرف الطرف الآخر عاطفياً ، أجل إنها عملية ابتزاز لن تنتهي في أروقة المحاكم ، ولن تخضع لأحكام القانون ، فالابتزاز هنا جريمة كاملة ؛ القتيل فيها حي دون حياة ، والسلاح فيها سمّ لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، يقترفها أحد أطراف العلاقة مستغلّاً مكانته في قلب الطرف المُحِبّ الذي أصبح أسيراً لتلك العلاقة ، وهو يتلاشى تدريجياً وبصمت مزعج في كلّ مرة يخضع فيها لابتزاز محبوبه ويستسلم لإرادته المهيمنة ، وقد يأتي يوم يجد نفسه غريباً عن ذاته التي انصهرت في محبوبه حتى ما عاد لها وجود ، لقد أصبح رهينة في ذات محبوبه ، الذي احترف التلاعب بأوتار عواطفه متلوّناً بالحبّ الموعود تارة ، وبالغضب العارم واللوم المتكرر والتهديد وعقوبات الجفاء تارات أخرى .
والمبتزّ هنا يرتكب جريمته بأسلحة مختلفة ، وإنّ أشدها خطراً توجيه اللوم بشكل مزمن للطرف الآخر ، الأمر الذي يضعه في قفص الاتهام دائماً ، فيغدو في حالة مرهقة من الدفاع عن النفس ، و يتمكن منه الحزن الذي ينهش نفسه واستقرارها ، فتضعف ثقته بذاته ، ويأتي على ما تبقى منها موجهاً أصابع الاتهام لنفسه بالتقصير والعجز ، وينتهي بسلسلة من التنازلات التي تدمره كلياً ، وتؤثر على سلوكه مع مختلف تفاصيل الحياة   .
وقد يتمادى الطرف المسيطر في العلاقة إلى مزيد من الضغط مستمتعاً بالآخر يذبل أمامه ببطء ، فيجد لنفسه مسوّغات مختلفة لحرمان الطرف الآخر من احتياجاته النفسية كحاجته للحب والمشاركة والتواصل والأمان وتحقيق الذات والتخطيط للمستقبل ، وبين ثنايا هذا الحرمان إهمال لاحتياجاته المادية من طعام وملابس ونوم أو عناية بالمظهر ، وهو لا يترك فرصة إلاّ ويعلو صوته شاكياً من حجم ما يجابه من ضغوط في العمل والحياة ، فهو شمشون الخارق ، الذي لا مثيل له في رعايته لأسرته ، وتضحيته في سبيل سعادتها ، صراخ واستعراض لما يقدّم من بطولات استثنائية ، وأمام سيل جارف من تضحيات البطل "عنتر زمانه" ، فإنّ شعور الطرف الآخر بالذنب والتقصير يتزايد لتصغر معه نفسه وتتدنى قيمة ذاته ، وقد يبلغ الأمر بالمبتزّ إلى حد ادعاء المرض كما في معظم مشاهد الفنان يوسف وهبه وهو يضع يده  على قلبه... ألبي ...ألبي  للتهرب من  موقف يُظهر خطأه وفق سيناريو الفيلم ، ولكم أن تتخيلوا شعور الطرف الآخر وهو يظنّ أنّ الأول يُشرف على الموت أو يواجه الخطر ، فيهرع راكعاً بين يديه ليهبه الحياة ، وقد نسي كيف بدأ الموقف أساساً ، كذلك فإنّ المبتزّ يقف دائماً على مقياس  "ريختر" ، دائم التوتر ، دائم الانفعال ، يثور لأتفه الأسباب ، والحبّة عنده قُبّة ، تجده مكفهراً متأبطا الشرّ ودائماً  " شايل طاجن سته " ، حتى يمكن أن نصنفه ضمن أقارب سنفور غضبان إذ لا يعجبه العجب ، وهو ما يدفع كلّ من حوله لتجنب غضبه ، وإرضائه حتى لا يبلغ ساعة الانفجار ، ومثل هذا الأخ ماهر في تلوّنه بأساليب ابتزاز من حوله مستدرّاً عطفهم في موقف ، أو مثيراً لمخاوفهم في موقف آخر ، يرى نفسه طاووساً في حضوره و أسداً يزأر في قوّته .
لا شكّ إذا أنّ التلاعب في مشاعر الآخرين ممن يرتبط بهم الفرد بعلاقة عاطفية يمكن أن يتمّ في نطاق الأسرة من قبل الزوج اتجاه الزوجة أو الأبناء ، كما يمكن أن تكون الزوجة هي الطرف المُبتزّ في تلك العلاقة ؛ إضافة إلى إمكانية أن يظهر هذا السلوك بين طرفين كالأخوة ، والأصدقاء المقربين ، والرؤساء والمرؤوسين في العمل لأهداف وغايات مختلفة تحكمها طبيعة العلاقة والمنفعة المتأتية منها  ، وإنّ الاعتماد على سلوكيات كالتمارض والتهديد والإهمال واللوم والتوتر وغيرها لتحقيق غايات المبتزّ ، يُعتبر خديعة رخيصة و ابتزازاً ممنهجاً يستهلك الطرف الآخر في العلاقة ، وينأى بها بعيدأ عن الاستقرار والحُبّ المبني على تبادل الاحترام و الاهتمام والتعاون والسكينة والعطاء الصادق ، وإنّ الطرف الذي يتعرض للابتزاز يُستنزف بمقدار حُبّه واستسلامه لسيطرة الطرف المبتزّ، وبمقدار ما تمت تنشئته وفق ظروف أسرية ضاغطة أفقدته تقدير الذات والشعور بالأمان ، ما يجعله غير قادر على الشعور بالآخر وهو يذبحه بسكين اعتاد مرورها في روحه ونفسه حتى ما عاد لجرح بميّت إيلام ، ما يدفعنا إلى التدقيق أكثر في الكيفية التي ننشئ بها صغارنا ، فنتوقف عن تهديدهم بالعقاب إذا لم ينجزوا واجباً ما ، أو توجيه عبارات توحي بالتوقف عن حبهم إذا لم يكونوا مطيعين ، كما يجب أن تسبق نظرتهم الذاتية لإنجازاتهم نظرتنا لها ، دعوهم يرون العالم بعيونهم لا بعيونكم ، ثمّنوا حتى أبسط إنجازاتهم ، ليكبر تقديرهم لذواتهم ، وعلموهم الاعتماد على النفس ، وساعدوهم ليمارسوا العطاء ويعتادوه دون شروط ، تقبلّوا منهم أن يقولوا ( لا ) بالطريقة المناسبة والتوقيت المناسب ،  عندها فإنّ ارتباطهم بشريك مبتزّ في المستقبل لن يكون وارداً ؛ فهم لم يعتادوا الضعف والخنوع ، إذ تذوقوا معنى التقدير ، واختبروا ذواتهم من خلال تجارب الطفولة التي صقلت شخصيتهم وأحاطتها بدرع واق من هجمات طواويس المجتمع وسلوكياتهم المبتزّة .


الدكتور عامر العورتاني
أخصائي علم اجتماع الجريمة 
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com





Share To: