كالبحر هي الحياة ، فهي في حين تحملك بموجها الهادئ لتُلقي بك بلطف على موانئها العتيقة ، وفي أحيان أخرى تضربك بأمواجها العاتية لتجد نفسك معزولاً على جزيرة بعيدة لا بشر فيها ولا حياة ، وهكذا تمضي سفينة العمر إلى حيث تحملها الأمواج ، ومع بعض المقاومة المدفوعة بالأمل تُمسك بالدفة وتُوجه الشراع ، لعلّ حق الاختيار يرسو بك حيث تتمنى ، وفي لحظة تأمل تتذكر أولئك الذين عبروا معك تلك الشطآن ، وسافروا معك إلى تلك المرافئ العنيدة ، فتخنقك العبرات وقد صاروا جزءاً من ماضٍ بعيد ، فتحضُر صورهم كالأشباح باهتة وشاحبة ، وتغمض عينيك علّ الصورة تعود جميلة كما كانت ، لكنّ الحاضر يجثُم كالصخرة ثقيلاً على قلبك ، فلا هم باقون ، ولا صورهم حاضرة كما كانوا، فركّاب الذاكرة يسافر بعضهم على درجة تلك المواقف الإنسانية الصادقة ، والخالية من كلّ مطامع الحياة ومنافعها ، أمّا أولئك المزيفون فصدقني إنهم يسقطون تباعاً ، وتهوي بهم الذاكرة إلى حيث لا شيء سوى النسيان .
هكذا حدثني وأنفاسه تتسارع ، لتلحق تلك النظرة الغائرة التي ملأت عينيه وهو يُحدّق في العدم ، كان مليئاً بالحنين ، وكان مغموراً بالألم ، وكالطفل حين يبوح بكل ما في جُعبته من أسرار أخبرني ، كيف بالأمس كان هناك ، و كيف كان هناك فقط يشعر بأنّ لوجوده معنى بعيداً عن العبث ، فهناك كان الصمت ناطقاً رسمياً بإسم المكان ، وكلّ ما هناك يُجِلّ الصمت ويسكن في حضرته تبجيلاً ، فالصمت في حرم الجمال جمال هكذا قال لي وهو يطارد المشهد في مخيلته مبتسماً ، وبدأ يُسهب في وصف لحظاته المسروقة ، وكيف كان جدول الماء فقط من يجرؤ على اختراق لحظاته المقدّسة تلك ؛ وهو ينساب بين الصخور مستحوذاً على كلّ ما في المكان ، فلم يمتلك إلاّ أن يتبعه كطفل صغير دون أن ينتبه للمجرى ، ولم يستطع أن يحول دون أن يمدّ يديه إلى جيبه ليُخرج تلك الورقة التي خبأها صدفة ليطويها على شكل قارب ويلقيها في الماء ، فصار يتبعه لاهثاً والقارب يواجه عُباب الجدول إلى أن تهاوت أجزاؤه فتاتاً وقد أتلفها الماء ، وقف وقد ملأ رئتيه بالهواء المُتخم بالأكسجين ، فتأمل تلك اللحظة الملائكية حيث الجنات على مدّ النظر وبدأ يدندن محاولاً استحضار وديع الصافي ، كان يحدثني عن رحلته القصيرة ، وكأنها رحلة حالمة إلى حيث ينبت الجمال والسكون والبراءة .
وما هي إلّا لحظات حتى تغيّرت ملامحه ، وخُطِف اللون من وجهه ، وكأنه دخل دهليزاً مهجوراً في ذاكرته عندما أفاق من تعويذة ذلك المكان على ضجيج أبواق السيارات ، وعلى ذلك الصوت الإذاعيّ الجميل ، الذي عَبَر الأثير حاملاً معه أنباء عن الوباء ، فأعداد الإصابات في ازدياد ، وكلّ الخيارات كانت مُرّة الطعم ما بين الحاجة إلى الإبقاء على مجرى الحياة متدفقاً ، وما بين حتمية العيش ضمن إجراءات التباعد والوقاية والحذر من الآخر ، وكأن الواقع ينقصه مزيد من تلك الرياح الذي تُلقي بنا يومياً على ذلك الشاطئ الجليدي المُتخم بتماثيل العلاقات المحكومة بالموت ، لقد أصبح الكورونا عدوه الجديد وهو يسلب منه آخر ما تبقّى من شظاياه المتناثرة ، ومع كثافة الزُحام بدا المسير بالنسبة إليه مِحنةً حقيقية تختبر قوّة التحمل لديه ، لكنّ بعضاً من سحر ذلك المكان بقي عالقاً في زوايا الشعور ، فصار يتسلل هارباً إليه عند كلّ إشارة حمراء ، وما أن دخل وسط المدينة حتى تراءت له المباني كعمالقة الأساطير ، تهرّب من الفكرة الطفولية وأنفاسه تكاد تنقبض ضيقاً بدخان السيارات وتلك الكمامة الرابضة على وجهه وقد أصبحت جزءاً لا يكاد ينفصل عنه ، وصل البناية حيث أودع في جزء منها جنى العُمر ، وحيث أحلامه رهن لذلك القرض الذي يقطف أيامه شهراً بعد شهر ، دخل إلى شقته ، ليجد نفسه محاصراً بين جدران المكان ، فأدرك للمرة الأولى أنه كما الأسير في حدود تلك المساحة الضيّقة ، فأخذ يهرب إلى سعة تلك اللحظات الساحرة التي تملكته هناك ، لكنّ أمواجاً من صُراخ الأطفال وهُتافهم خلال اللعب ، وطرقات على مسمار في الجدار المقابل كانت تخترق سمعه لتبعثر إلحاحه على البقاء تحت سحر تلك اللحظات المستعارة من قطار الزمن ، فأعلن استسلامه ، لكنّ ذاكرته كانت تصرّ على إثارة الشغب وهي تجبره على العودة إلى الوراء حيث كان كلّ شيء جميلاً ، وهادئاً ... بسيطاً ، ولذيذاً .
بانوراما سريعة قفزت بكلّ الماضي ، وعلى ألم الذكرى وجد نفسه يعقد مقارنة غير متكافئة ، فأين نحن اليوم من رحابة الماضي ...!! ، كانت الأماكن بسيطة لكنّ كلّ شيء كان دافئاً وحميمياً حدّ الغرام ، وبالرغم من أجواء الصيف إلاّ أنّ القشعريرة تمكنت منه ، فأحسّ بشعور المغترب العائد إلى ديار الغُربة بعد الإجازة السنوية في أرض الوطن ، أدرك حينها أنه مريض بالحنين ، فقد كانت الوحدة تأسره رغم كلّ ذلك الصخب ، فصارت العلاقات تمتد شوكاً يؤلم وخزه مع كلّ تجربة فاشلة لبعث الحياة في العلاقة مع الآخر ، فالعمل أضحى مجرد علاقات مؤقتة سرعان ما تلفظ أنفاسها الأخيرة ، فتوارى الثرى دون فاتحة أو صلاة ، حيث النسيان مثواها الأخير ، وعلى أركان المناسبات العائلية تُعلَّق أعذار قبيحة تسوِّغ البُعد والتقصير في اللقاء ، أمّا الجيران فللأسف علاقات مع وقف التنفيذ ، فلم يعد الجار يطرق باب جاره ليطمئن على حاله ويبادره بزيارة عاجلة ، ولم يعد صغار الجيران يطرقون الباب طلباً لجزء ناقص من غداء اليوم ، ولم يعد ينتظرهم ليعودوا إليه بطبق من ذلك الغداء ، لقد كانت تلك الأطباق تأتي وقد مُلئت حبّاً وعرفاناً بالجميل ، وها هو الفيروس اللعين يستهدف ما بقي فينا من فُتات العلاقات ، التي لم تعد كما كانت بسيطة ومليئة بالصدق والحُب ، فبالرغم من تقارب الجدران إلاّ أن المسافات بين الأرواح أصبحت تزداد بُعداً ، لقد وجد نفسه مصدوماً بذلك الموت الذي تمكن من كلّ العلاقات ، ليتركها جوفاء وكأنها مومياوات بلا حياة .
ومع اقتراب ساعة الحظر الليليّ ، انتهى اللقاء في غمرة اللا مصافحة و اللا عناق ، وهكذا لملم ذكرياته وآلامه وحنينه ولوّح مودّعاً ، ليتركني على ذلك الرصيف مع كلّ ما بثه فيّ من حكايات نفسه ، وأنا أرى فيه ذلك الصديق الذي لم يكن يوماً غائباً عن حكايات الآخرين ، قبل أن يغيبوا خلف ضغوط الحياة متناسين أجمل مبادئها وأغلى عطاياها ، فقلة هم من تمكنوا من الصمود في وجه الضغوط دون أن يفقدوا مبادئهم ، ووجدتني محاصرا بدفء حنينه لأجمل ما في الماضي ، وأنا أُقلّب صفحات ذاكرتي ، لكنها ذات العبرات خنقتني وأنا أنظر في كلّ الوجوه التي كانت حاضرة يوماً ، وضاعت ملامحها في سراب الحياة .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: