استبق الشّمس كما العادة، ارتحل من بيته يغسل صباحه بشيء من الرّوح. اختلط عليه الحابل بالنّابل، لم يعد يذكر آخر مرّة هاتفه منير ليستله كما الشّعرة من العجين من فراشه الدّافئ في صباحات الشّتاء الماطرة ببكاءٍ كالبرد، بدأ يعتاد تلك الرنّة التي ما إن تدق أبواب سمعه حتى يقفز ناهضا كما لو إنّه في الشاليه بثكنة، وعسكري المناوبة يقف فوق رأسه بصرخات عنيفة، يهتزّ لها شريانه فتختلط دورته الدّموية ليصبح كل شيء أمامه أحمر، سوى أنّ رنّة منير تجعله يشعر نبض قلبه على طرف لسانه، يمسك بطرف السّرير، يدفع البطانية ببطء، يمدّد يديه في الفراغ، يشبك أصابعه فوق علية رأسه ثم يلوك لسانه كلمات لم يعد يشعر أنّها ترتفع في السّماء، ينظر يمينا، زوجته تغط في نوم عميق، يحاول لكز أطرافها بأصابع رجليه، لكن يتذكر أنّها آخر مرّة نهرته مذكّرة إيّاه بالرّوماتيزم الذي ينخر رجليها في صمت، فيعدل عن ذلك متوجّها إلى الحمام.
تختلف أمامه الوجهات داخل الممر الضيّق الفاصل بين غرفته والحمّام، يحك جبهته وكأنّه يفكر في انجاز ملحمة، لكن سرعان ما تستطيل يديه ممتدة نحو مفتاح قابس الضوء، ينير الممر ثم لا يلبث أن يطفئ النور ويعود مسرعا إلى الخلف ليشعل فقط المصباح الصغير تحت السلّم. ينشر أحلام الصّباح على غطاء وردي من ثلاث أرغفة ساخنة هي محصلته بعد كل صلاة فجر من مخبزة الحي، عادة ما يتأخّر في المسجد حتى ينقضي الطابور الطويل الذي تتخلله الأحاديث المشغولة بكل شيء سوى توفير القليل من الصّمت لينعم الصباح بجمال الحياة المقبلة على المجهول، يقبض على خياله عند كلمة المجهول مرسلا أثر رجليه المتعبتين بالجري خلف آخر شطحات العتمة، ليسبق الشّمس في طلوعها على رغبات أولئك الذين سبقوها بالكلام عند الطابور المعتاد في مخبزة الحي.
لم يعد يدري هل يقوم للصلاة أم للخبز أم ليناوش رجلي زوجته عند طرف السّرير وهي تلتوي في بطانيتها متمتعة في أحلامها بحركة أصابع رجليها اللاإرادية، لم يكن يرى حينها سوى صورة صديقه عيسى مدرّس الموسيقى الجالس إلى بيانو أبيض، وجهه ضاحكا قبالة عدسة الكاميرا واضعا يده اليسرى على أزرار البيانو وملوّحا بيده اليمنى كما حركة المايسترو، طبعا كانت هذه الصّورة بعد أن تقاعد لأنّه متأكد أن لا أحد من طلبته سوف يحرجه بالعزف، فقط أخذ الصّورة ليجعلها على جداره الفيسبوكي، بروفايل ببيانو وأصابع تمتد في الرّيح، تماما كما هو الخيال الذي يشط به حين يتعبه الوقوف في طابور الخبز الصباحي، ما زاله يتساءل هل كل النّاس الذين يتأخّرون في المسجد ينتظرون فقط انقضاء طابور الخبز؟
كان يحلو له أن يطابق الصّورتين، أصابع رجلي زوجته وأصابع يدي عيسى صديقه، يروق له كثيرا أن يبادل الأصابع، فتصبح اليدان بأصابع قصيرة والرّجلين بأصابع طويلة، ثم يدفع عيسى ليفلي رؤوسا عديدة يملأها القمل، بينما يروح يرسم طريقا بسجادة حمراء لزوجته وهي تتوجّه إلى خشبة المسرح الأولمبي لتعزف رائعة ريتشارد كليديرمان "زواج عن حب"، لكن بأصابع رجليها الطويلة، ترفع قليلا أطراف فستانها الأبيض الطويل المجرجر وتجلس بتثاقل مستحيل على الكرسي، تطلب طاولة بحجم ارتماء يديها إلى الخلف متباعدتين، تتّكئ عليهما لتستطيع أن ترفع أصابع رجليها بكل خفّة للّعب مع أزرار البيانو، فجأة ينظر في القاعة فلا يرى سوى الرّؤوس الكبيرة تعبث بها الأصابع المتوالدة من رجلي زوجته والجميع يغنّي "أينعت الرؤوس وحان قطافها" مختلطة مع "زواج عن حب"، يشعر بدوار في رأسه بعد أن يتحوّل نغم البيانو إلى قرع، ومن بعيد ترتسم أمام عينيه خمس أرغفة مذهّبة لامع لونها تصنع احتفال الصّباح المنتظر عند لغط المصلّين الذين عبروا الطابور ونسوا بعض ألسنتهم على محسب المخبزة.
يستعيد بعض راحته التي أهملها الليل، أفرشته الدّافئة التي لا تنادي سوى على كوابيس مزعجة، يفتح الحاسوب، ينسى دائما شيفرة الدخول، يستعين بأجندته الزرقاء، ثم يسرح ويمرح بعيدا في فضاء التّجوال الأزرق، يضع مخططات منشوراته أمام عينيه، ينزّل نظارته المكبّرة على أرنبة أنفه، يتقدّم خطوات نحو الأمام وأخرى خلفا، ليس في الغرفة بل على أرضية الفضاء الأزرق، ثم يرسل أول منشور يتحسّس به نبض زوّار البكور المفترضين، أوّل لايك كان من صديقة فرنسية، المنشور بالعربي، لعلها مجاملة، أم تراها تعرف العربية؟ تفاجئه مارغريت بتعقيب جميل: "من مقهى جان دارك أرسم بسمتك على فنجاني. كل صباح وأنت أزرق، صديقي الجنوبي الجميل"، تناثرت الخيالات أمام ناظريه، ولم يعد للصّبيحة سوى شكل الأصابع القصيرة في يدي عيسى والطويلة في رجلي زوجته، حرّك رأسه دائريا، دك إبهاميه في بؤبؤيه، غلبته عطسة، فكتمها كما كان يفعل خاله، سمع شيئا اهتز له خشب الكرسي، تحسّس أنفه، وفكر بصوت مرتفع: إذا كانت مارغريت عربية فمن أكون؟
تتالت اللايكات بل كاد أن يسمع زغاريد مبتعثة من أبعد البعيد، لولا أنّ جرس البيت دق، رمى بسرعة خاطفة عينيه في المنشور، ثم بحركة خفيفة انزلقت أصابعه تحرّك الفأرة لتطفئ الحاسوب، وقبل أن تَسْودّ الشّاشة، تساءل إن كان أغلقها في وجه مارغريت أم في وجه رصيف مقهى جان دارك؟
أسرع إلى الباب محمّلا بهواجس أصابع رجلي زوجته التي استطالت، والبيانو الأبيض الجميل الذي أصبح لأزراره صوت يشبه قرع النواقيس، لم يشعر بالمسافة الفاصلة بين الممر والباب. كانت تندفع من الجدران أصوات بنغم البيانو وقرع النواقيس ومارغريت ترطن بالعربية وسيلان قهوة "أربيكا" من العاصرة في مقهى جان دارك، تتالت دقات الجرس، وقبل أن تنقطع، كان الباب مفتوحا على وجه صديقه عبد السّميع، أدرك حينها أنّ السّاعة قاربت العاشرة صباحا، وموعد "مقهى زمان" حان أوانه، ابتسم كالعادة، وخرجت كلمات عبد السّميع المكرّرة: "سأنتظرك هنا، لا تقلق ولا تسرع، على مهلك ليس وراءنا شيء"، كلّما ردّد عبد السّميع هذه الجملة إلا وتردّدت في عمقه صورة الفراغ، غول كبير فاغرا فاه، هل فعلا ليس وراءنا شيئا؟ يبتسم ويتظاهر بأنّه فعلا ليس وراءه شيئا، ثم يتم لباسه، يتهندم ببساطة وتأنّق، يعانق المرآة، يشق مفرقه الذي يقسم شعيراته على مساحة وسطى شبه صلعاء وأخرى جانبية مشعّرة، يفتح العلبة الصّغيرة التي فتّت فيها حجرة مربّعة صفراء لعطر قيل إنّه مسك، يقبض على قرصة بين السبابة والإبهام، يفركها بين يديه، يمسح على رقبته ووجهه وعلى صدر ملابسه، ثم يبتسم في المرآة ويخرج قاصدا مقهى زمان رفقة صديقه.
بخلاف عبد السّميع، لم يعد يشغله كثيرا حمل الكمّامة أو المطهّر الكحولي، أو هكذا فهم من نفسه، بدا له أنّ الكوفيد 19 إلى زوال، ليس على قناعة علمية، ولكن حدسا كما حدس العجائز الذي لا يخيب في الكثير من الأحيان، لانّه يقوم على التجربة، لكن كلّما تذكر طابور الخبز الصّباحي إلا وتراءى له الفيروس ينط من بين قشرات الخبز المشرئبة من صهد الفرن. تناثرت الكراسي والطاولات أمام المقهى، وتزاحمت الأجسام بداخله تنعم بدفء السخان، غير عابئة بنداءات التباعد وارتداء الكمامة القادمة من زجاج الشّاشة المسطحة القابعة خلف صراخ الزّبائن الذي يزيده دفء الداخل سخونة.
قبض على كرسي كما يقبض على قرني خروف صبيحة العيد مخافة أن يهرب، ثم جذبه قليلا إليه وجلس ناظرا إلى عبد السّميع الذي يبدو أنّه لم يقتنع بالجلوس على قارعة الرّصيف، حاول أن يفهمه بأنّ سخونة الفنجان لا تعوّض حرارة السخان، لم يأبه لكلامه وراح ينادي على النادل من تحت الكمامة بغمغمات تشبه العادم، أخيرا اكتفى بالإشارة إلى فنجانين معصورين بقبضة ثقيلة تهوي في الفراغ مشدودة إلى امتداد الساعد، تأكد بأنّ يدي النادل تماما مستجيبتان إلى القفازين الشفافين، وأنّ فمه وانفه مكمّمين، فمعايير السلامة واجبة وإن كان المكتوب ما منه هروب، نظر في وجه عبد السّميع فوجده مقطب الحاجبين ممصوص الشفاه وعيناه غائرتين في محجريهما، فلاطفه بحديث كان قد قطعه أمس عنهما مجيء "علي الضب"، لا يستأنس به الجالس وهو لا يطلب الإذن في الاستضافة، فيجثم على أنفاس الكلام الحميم بين الصّاحبين. أخرج ذاك الكلام من تحت ركام ثقل الضب، ونكّت حتى انفرج ثغر عبد السّميع على ابتسامة عريضة، تزامنت مع فرملة قوية لسيارة الإسعاف مصحوبة برتل من البوليس في أتم حالات الجهوزية للهجوم، سدّوا أبواب المقهى، اختلط الجيش الأبيض بالأزرق، تعالت الأصوات، اتجهوا إلى الطاولة المندسة في الزاوية اليمنى قرب المحسب، وأشاروا إلى أحدهم، في غفلة من الهرج رُميت كمامة ضالّة تلقّفها بيديه عند صدره الذي يكاد يفرغ ما فيه، ساقوه إلى سيارة الإسعاف بينما ظلّ البوليس في المكان ينتظر وصول المدد الَإضافي. على طاولة الرّصيف، كان انحدار الشمس يجالس الصديقين. أمعن النظر في أصابعه، لم تكن قد لامست أي شيء، تحرّكت في الفراغ، رسمت بيانو على جسد الغيم، وعزفت "زواج عن حب" بـ"لحن عربي الرّنين"، حينها كانا يتسلّلان من بين ذرّات الغبار المتطايرة من تحت أحذية الجنود الزرق والبيض غير معنيَيْن بالمشهد الحربي في ساحة الوباء القهوية.
Post A Comment: