بين انتفاضة الشعوب العربية سنة 2010،ثم سياق كوفيد 19 الحالي،انقضى عقد بالتمام والكمال؛على اتساع رئة نَفَس الحرية خلال لحظة تاريخية معينة كما استنشقته شعوب المنطقة. 
نستعيد هذه الأيام،أولى بواكير تلك الهزة المزلزلة،مع اندلاع انتفاضة الشعب التونسي يوم17ديسمبر التي اشتهرت ب''ثورة'' الياسمين،باعتبارها منطلقا لمختلف مجريات اللاحق.ربما،هي الذكرى الوحيدة القابلة لإعادة الترميم ومن ثمة قابلية الشرود بشاعرية وجودية،لأن تونس؛يظل البلد الوحيد الذي ولج ممكنات الديمقراطية ولبنات المنظومة التحضر والتمدن،بأقل الخسائر المفترضة؛ولازالت التجربة اليتيمة تعيش ضمن حدَّي المد والجزر،تبعا لحيثيات عوائق داخلية مرتبطة بإرث كارثي راكمه جذريا نظام بن علي البوليسي،بالتالي فالتخلص من الوضع اقتضى ويقتضي نقلات نوعية فكرية أساسيا؛يحمل لواءه تحالف طبقي تحكمه جرأة مرجعية مدنية رصينة. 
دون التغافل قط،عن ضراوة جمر ''نيران صديقة''التي لم تتردد منذ الوهلة الأولى في نفث سمومها الفتاكة على نار هادئة،عبر قنوات شتى يتدبر خيوطها الشيطانية المحيط الخارجي؛القريب والبعيد،تبعا لشعار الاكتئاب المرضي :"عليَّ وعلى إخوتي..فليذهب جميعنا إلى الجحيم السابع دون هوادة".
لاأعرف تحديدا حجم الأرشيف التوثيقي لأحداث سنة 2010؛ثم اللاحق،غاية متواليات انتفاضة السوريين قبل أن تتربص بها متاهة مستنقعات الطائفية والأصولية،منذ الإعلان الأمريكي سنة 2012،عن اسم تنظيم مجهول اسمه النصرة وتصنيفه إرهابيا.منذئذ اختلط الحابل والنابل،واختلط كل شيء بأيّ شيء،ثم سرقت عبثا ثورة الحرية والخبز والكرامة من شعل أيادي الشعب السوري؛العريق في دروب الحضارة،كي يلقى بها بعيدا جدا، صوب متاهات بلا نواة ناظمة. 
لكن ماأعرفه تحديدا،أنه انطلاقا من تلك اللحظة،وبداية تفريق شظايا قميص المشروعية على القبائل المتنافرة،مثلما حدث قبلها في العراق؛حينما أطيح بنظام شمولي لايرحم بشرا معارضا ولاحجرا مستكينا،باسم إعادة هيكلة البلد ديمقراطيا.بيد أنه عوض تبلور المشروع الديمقراطي؛فعليا وحقا على أرض الواقع،أطلق العنان قصدا وعمدا لشرارة مختلف مثالب استبداد أعمى من نوع ثان لا يقل ظلما عن الأول، يتمثل في هيمنة نزوعات العرقية والطائفية ونعرات الحروب الدينية. 
هكذا تكرس انطباع عام،لايزال غاية الآن ينخر ذاكرة ''ربيع" شتاء 2010 ،مفاده أن التاريخ لايعرف ولن يعرف سبيلا نحو هذه البقعة- إنه قَدَرها ! - ويكفي أهلها حتى نهاية العالم،الاستكانة إن أمكنهم الأمر؛عند معاينة الجغرافية لكن ليس بمنظور أفق استراتجيات التاريخ البناءة،بل فقط حسب رغبات رعاة الاستبداد؛حيث تتقلب معطياتها بتقلب الأمزجة الشخصية.
في هذا الإطار،يعجز العقل السوي عجزا تاما،عن مجرد تذكر قائمة سلسلة معاهدات واتفاقيات''رابط الدم والأخوة والدين واللغة وهلم جرا ''التي وقعها صانعو النظام الرسمي في هذا المنطقة،وملاحم البروباغندا الدعائية اللاهثة حين صفاء الخواطر.ثم،سرعان ماتلغى، قبل أن يجف حبرها؛ربما في ذات مساء صبيحة ذلك اليوم،فيمحو الليل بجرة حبر أسود ركام زغاريد وعناقات النهار.
أقرب واقعة للتمثيل على سبيل الهزل؛مادام العقل صار مشلولا : لماذا اختلف النظام السعودي والقطري بتلك السرعة القصوى،دون هدى مبرر مقنع يذكر؟ثم التقيا ثانية بعد حفر مجاني صوتيا؛من خلال الفضائيات، لهوة عميقة تاريخيا،بأسرع من السرعة السابقة،دون أن يستوعب أيضا شعبا البلدين الشقيقين جملة واحدة من ديباجة مبررات الخصام أو الصلح. إنها،الدرجة الصفر للاجدوى التاريخ والجغرافية . 
عموما مرت غاية الآن عشر سنوات على واقعة ربيع شتاء  2010 .هناك خلاصتان أساسيتان :
*استأسدت المنظومة الشمولية بشتى مرتكزاتها : تجفيف منابع المجتمع المدني لصالح  تأبيد منظومة التحنيط والبؤس. 
*ازدادت أوضاع الشعوب انحطاطا وانحدارا وترديا  ومتاهة،على جميع المستويات.واقع تعرت هشاشته تماما مع مقتضيات حرب كورونا. 
وأنا بصدد الحديث عن جدليات الجغرافية والتاريخ؛التي تشكل محور تقدم أيّ مجموعة بشرية،حين استيعاب تفاصيلها بمنطق الرؤيا الرؤيوية،تحضرني الصورة المجازية التالية :ذاكرة الشعوب،مهما بلغت مستويات تكلّسها وموتها،يظل كنهها أشبه بأخدود نهر.والأنهار كما يقال،لاتنسى أبدا منابعها الأصلية،بالتالي،تستلهم ضمنيا باستمرار سبيلها الطبيعي؛وإن طالت واشتدت سنوات جفاف المنبع.
غير،أن السؤال الذي يصعب التكهن بجواب يقيني عنه،ينصب حول التنبؤ بمستويات حمولة هدير الماء.   




Share To: