من الكتاب من يكتب وقد استدعى عقلية مستشرق فتصدم من نصه وإن كتب عن الحارة والقرية، ولكن نادر عبد الخالق كاتب معجون من طين هذه الأرض الطيبة، معني بالإنسان في بلادنا أيا كان ويسيطر عليه هاجس الخوف على الهوية والتي كلما تطرق إليها طمأن نفسه وطمأننا أنها الأقوى، وبالفعل هي الأقوى والخوف ليس على الهوية بقدر ما هو الخوف على الإنسان نفسه، فالثوابت التي تهب عليها الرياح من كل صوب ونحب لن تنال منها ولكنها ستنال من الإنسان وتبقى الثوابت برسوخها حتى لو استبعدت في زمن ما، فهي كالقدور الراسيات لا يزحزها أحد ويأتي جيل آخر ليتبناها من جديد وهذا ما اشتغل عليه الكاتب في صياغة فنية بحرفية عالية وهو الذي يأخذ بيد القاريء راضيا مرضيا إلى عالمه القصصي الذي رسمه باقتدار فبنى قبوا بداخله البهو الذي يعرض فيه مجموعته التي تعلن عن كاتبها بجمل ومفردات تخصه فابتدع وظيفة تسمى "مدير إدارة المعرفة الجزئية" والخبز الذي يأخذه من طابونة الأمانة، وإعادة تدوير البشر، والرجل الرابع والذي هو مقياس لكل نفيس والرجل الأول الذي لا يحظى بالدخول إلى مكتبه إلا من أجاد هندامه بملابس جده الذي مازال يرتديها في إعلان عن التمسك بالهوية، والمنظومة الذكية والتي هي النظام العالمي بتحدياته أو الحداثة التي بأيدينا من الممكن أن تكون معول بناء أو تكون معول هدم طبقا للتعامل معها.

والشخصيات داخل العمل ليست بالغريبة عنا، فبمجرد أن تطالعها تشعر أنك صادفت هذا وذاك يوما ما في موقف ما، ولكن الفنية العالية التي تم التناول بها جعلتنا ندخل في عوالم من الدهشة المؤطرة بحدود أطرها الكاتب لنبقى مدهوشين بتعريته لنا بهذه الصورة الفجة.

بدأ الكاتب مجموعته القصصية بقصة بعنوان الرجل الرابع، وهي عزف شجي على الهم العام بكل محتوياته، وبدا معجبا بالأصالة التي تتيه بنفسها ومتحدية لنا في آن، من خلال رجل شبيه لبكوات الأربعينات والخمسينات، بمظهره المخملي وإصراره على قهر ودحر السطو الناعم للغزاة الجدد من حروب الجيل الرابع، ومشكلة الجيل الرابع والخامس وهو هنا يشير إلى "شريحة بيل جيتس" وما لحقها من اتهامات كثر بالنيل من إنسانية الإنسان، أما هذا الرجل لهو أنسنة جذورنا التي تضرب في العمق والقادرة على هزيمة المتآمرين معبرا عن ذلك بقوله:

"إنه الرجل الوحيد الذي مكث هنا في منصبه كل هذه المدة دون أن تطاله يد القهر والتطهير، أو الإحلال والتجديد، أو الإقصاء"

ثم يعبر عن قوة وإصالة قيمنا وثوابتنا بكل مكوناتها فيقول أنها قد تتحوصل أو تتقوقع في عدة أطوار متباينة ولكنها لا تندثر ثم تنطلق من جديد في ردهات المنظومة الذكية والتي تعني الحياة العصرية.

والرجل الرابع لا قدوة له إلا الثلاثة الذين يسبقونه فهم وحدهم لهم السمع والطاعة وهم دائما أصحاب الصواب والثواب والخير كله يأتي من عندهم، أما هؤلاء الثلاثة فهم أنبياء الرسالات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام

 (حسب تصوري فلا يوجد بشر يجانبه الصواب دائما وأبدا سوى الأنبياء)

 لذا هم مصدر العقاب والحرمان لمن يجرؤ على مواجهتهم وفي هذا القول تبطينا وإجمالا لمن يريدون شخصا مثاليا، فالمثالية فقط كانت للأنبياء.

الرجل الرابع المسمى الدكتور أوسام الطويل حتى الإسم نفسه كله إسقاط، فهو ليس وسام واحد وإنما جملة من الأوسام وكنيته الطويل، أي الممتد في إشارة إلى عتاقة منظومتنا التي وإن كدرتها بعض الأعطاب لهي الباقية وقادرة على تجاوز تلك المستجدات التي أشار إليها، ولم ينسى الكاتب أن يشير إلى جمال وقوة متوننا من خلال وصف مدخل القاعة بالنافورة المتقاطعة وبساتين الورود وبأثاثها الأرابيسك ولم ينسى أن يقول لنا أن الرجل الرابع لم يلتزم بلون الزي الرسمي للحضور دلالة على التميز والتفرد.

أما الهوية والتي احتلت مساحة لا بأس بها في المجموعة وهي هاجس الكاتب وشغله الشاغل في ظل "المنظومة الجديدة" وهذه المفردة تعني الزمن الآني بكل تفاصيله الإيجابي منها والسلبي، لكل زمن خصوصيته التي بها يتفرد، ورغما عن الجموع فإنه سوف يذوب كثر في هذا الطوفان الهائل من التطور السريع لا ثقل لهم في الحقيقة، بل والذوبان المؤدي إلى الاختفاء كما في قصة "لفة شال"، هذا الاختفاء القصري بالطبع رغما عن صاحبه، لأن الكادر لن يتسع له، فليس كل من يلف رأسه بشال أو عمامة مهيأ للتعامل مع المنظومة الجديدة المعقدة بتراكيبها لدرجة أن هناك من سيقف على هامش الصورة وليس في القلب منها، إنه التمرد الحداثي كما أسماه الكاتب والذي رغم سطوته فلن يستطيع محو هوية المكان المظلل بكل مكونات الحداثة رغم بقاء الطابع والسمت الإسلامي للمكان وكأن هذه المباني التي تطل علينا من غور سحيق كتاب للتاريخ مفتوح طول الوقت في صراع مع غول الحداثة والذي يظهر الكاتب من خلال مفردات بعينها خوفه على هويتنا وثوابتنا ولكنه في الوقت نفسه يؤكد على الثبات الانفعالي لهذه الهوية حيث قال :

"ومهما فعلت الحداثة فعلتها فلن تغير شيئا من عراقة المكان الذي أنشيء خصيصا لمواجهة التمرد الحداثي" وفي نهايتها لا يحظى بالدخول إلى الرجل الأول سوى الذي أتقن لف الشال وحافظ على هندامه والذي هو زي الأجداد في إشارة إلى الهوية راسخة الأقدام.

في القصة الثانية بعنوان "اختيار"  يطلعنا على طالب مصاب "بتورم الذات" وفيها دخل المدرس لاختيار ثلاثة طلاب يمثلون المدرسة في أوائل الطلبة، وفي هذا الفصل يرى طالب أنه حتما سيقع عليه الاختيار كأول طالب على المدرسة ولكنه فوجيء بأنه لم يحظى ل بالأول ولا الثاني ولا الثالث، بل وأكثر من هذا فشل في إقناع نفسه بأنه ينبغي العودة إلى الفصل لمعاودة التعلم، في صلف ورعونة لن تؤذي أحدا غيره، ما يعني أنه خارج التصنيف من الأساس وهو قول ينطبق أحياناعلى أفراد وأحيانا أخرى على دول. 

في قصة أخرى بعنوان "خالد العرب" إسقاط فريد من نوعه على عموم العرب الآن وحجمهم الحقيقي، فقد تم اختيار هذا الطالب من الجامعة ليمثل في مسرحية عن خالد بن الوليد وهو من اعتذر لأنه لم تراوده نفسه مرة بالعمل بالتمثيل وليس لديه فكرة عنه ولا يستهويه ولكن هذا الآخر الذي جاء ليختار مواهب جديدة قال له وجهك جميل وشكلك مقبول وسنعلمك كل شيء، فذهب في الموعد المبرم ليجلس أمام اثنين لا يلتفت له أحد يذهب عند الشباك ويعود، يسعل سعلة مفتعلة، ولم يلتفت إليه أحد فقام وانصرف ولم يعبأ أي منهم بحضوره كما لم يعبأوا بانصرافه فلحق به من لحق ليناديه "يا خالد العرب" عد فأنت من سيمثل الدور في المسرحية، فهو يقول لنا أن لا أحد يعيرنا أدنى اهتمام الآن 

قصة بعنوان "تدوير في رأس الحمامة" 

 شخصية سريالية من نحت الكاتب، بدأ القصة بحادث مروع للشخصية، المحور الرئيس، لدرجة أنه لم يبقى به بوصة لم تتضرر من الحادث، هذه الحادثة أحدثت داخله الصدمة في اللاوعي لدرجة أنه وصف حياته كأنه بالبرزخ أو كأنه بين النوم واليقظة من هول ما حدث له، فقد تغير تماما في كل شيء حتى رأسه أديرت للخلف وأشار إلى أنه لولا أموال أبيه ما استطاع العودة للحياة مرة أخرى، ربما يقصد حوادث تاريخية بعينها وما أكثرها، وربما يقصد التغير الذي يطرأ على الإنسان المتمثل في هذه الشخصية السريالية التي نحتها على عينه وأشار أن عمره الخامسة والعشرين أي أنه مكتمل التكوين والفتوة، لتبوح بالكثير، وربما يجهل الكثير منا المفردات التي يعبر بها عن نفسه، وعبر عن المراحل المتناقضة بكلمة "التدوير" والذي لا يكون إلا للنفايات، فلماذا يقوم إنسان العصر بتدوير النفايات حتى من البشر؟

ينهي القصة بوصول تلك الشخصية الذي يقوم بعملية التدوير إلى طريق مسدود عندما عرج على المخدرات، ملاذه الأخير والمنشطات الجنسية الفياجر لدرجة أنه كان يصر أن تتناول زوجته معه أقراص الفياجر وبرر ذلك بقوله "أنا حر" ثم وبحرفية وعفوية يقودنا الكاتب إلى حله الجذري وهو ضرورة وضعنا في فرن سحيق لنصهر جميعا من جديد، والصهر هنا ينقي المعادن حتى يسهل استخلاص الخبث منها ويعاد صياغتنا حتى تستطيع مواكبة الحياة في أنماطها المختلفة، أما حالة التيه والحيرة التي يعانيها فتمثلها برغبته في بعث الحياة في تمثال من الجرانيت فتبخر وآخر من حديد فانصهر، فلماذا يبحث عن قوالب جاهزة كانت ومضت ولا يبتكر ويخلق هو عالمه يصوغه بنفسه؟

"زواج" عنوان لقصة أخرى بدأها بالاعتراف بحالة الغربة التي تفرضها مصر على البعض من أبنائها والذين يعانون الاغتراب إذا عادوا إليها، ثم يعقد مقارنة أراها ظالمة بين الإنسان في أوروبا كيانا وكينونة والإنسان في مصر، ثم يبرر بشكل مقنع ذلك بقوله أننا عاطفيون وهنا اختلف مع الكاتب في هذا التوصيف الجاهز وأجهر بالحقيقة التي تقض مضاجعنا وهي أننا مهزمون من الداخل ولدينا شعور بالعجز والقهر والكبت، نتساوي في اقتسامه جميعا حتى ولو رأى نفسه من كريمة المجتمع، ثم هذا العائد من إيطاليا لمدة شهر يمر منه خمسة أيام ويريد العودة إلى إيطاليا بزوجة من مصر فيقرر أن يذهب إلى شارع البحر ليختار زوجة من الفتيات هناك!!!!!!!!!!!! وبعد طريقة الأربعينات هذه سار خلف إحدى الفتيات ودخل البيت ولما أخبر الأب بنيته رحب به ورحبت الفتاة التي علمت أنها ستسافر إلى إيطاليا ورأت سمته وحذائه اللامع وهندامه فقررت أنها ستتزوجه عند عودته إليهم بعد أسبوع كما قال للأب وهذا يعني أنه جاء ليشحن زوجة والفتاة قبلت بالصفقة المادية البحتة وهي صورة محزنة تعبر عن سطوة الصراع بين الحفاظ على التقاليد التي تربى عليها والتمسك بالهوية والرأسمالية المتوحشة التي تذبح هذا المجتمع ذبحا.

في قصة فايق العارف، تطرق إلى قدرة رضا على التنبؤ بما سيحدث للبعض خاصة أقاربه فلما امتد إلى نبوءة تخص الطبيب الذي ذهب إليه رأى أن يذهب إلى "فايق العارف" وتدرج معنا حتى اكتشفنا معه أنه نصاب وأن قدرة بعض الأشخاص على توقع ما سيحدث من خلال رؤية منامية، أو يكون لديهم شفافية عالية تمكنهم من استشراف ما سيحدث أحيانا وهذا وحده علم يتماس مع الميتافيزيقا التي يصعب تفسيرها أحيانا فما أوتينا من العلم إلا القليل.

قصة أخرى بعنوان "فكرية"

استطاع الكاتب أن يختلق أشياء تخصه، أفراد أو وظائف لا وجود لها ولكنه يرسم عالمه القصصي بنفسه حتى إذا ولجه القاريء وجد نفسه فوق أرضية ثابتة الأركان والزوايا، فطالعنا في هذه القصة وظيفة تسمى "مدير إدارة المعرفة الجزئية" وهو منصب جد فريد وصل إليه بعد جهد جهيد، ويبدأ يومه في العمل بالوقوف أمام طابونة الأمانة ليحصل على حصته اليومية من الخبز ثم يتوجه بعدها مباشرة إلى الديوان ليوقع في دفتر الحضور ثم ينشر الخبز على طاولة حتى تهدأ ثورته ويهبط وجهه المنتفخ، يضعه في كيس خاص به، ثم ينصرف إلى بيته يتناول فطوره بالخبز الذي حصل عليه من طابونة الأمانة ليبقى طيلة اليوم لا ينصرف إلا مع باقي الموظفين، هذا الموظف الذي يبدأ يومه بالفطور بالخبز الذي تحصل عليه من طابونة الأمانة وصفه الكاتب بأنه ضعيف السمع وبالتالي فهو لا ينطلق لسانه، لايستخدم المواصلات العامة وإنما دراجته المتهالكة التي تقترب من الأرض، وكأن الكاتب يريد أن يوحي لنا بكون هذا الذي يأكل من طابونة الأمانة لا يستخدم المواصلات العامة حتى لا تنتقل إليه العدوى بأمراض الآخرين الأخلاقية، كأنه يقبض على الجمر في تمسكه بالفضائل، وهو باحث دؤوب عن المواهب الفنية في مختلف المجالات، يجوب الحارات الضيقة والأزقة والعشوائيات في إشارة للأماكن التي توجد بها المواهب الحقيقية ولكنها لا تجد من يفسح لها الطريق ثم يعثر في نهاية القصة على جملة من الأشعار لسيدة هادئة ريفية بسيطة، وكأنه يريد أن يذكرنا بكم الطفيليات التي تظهر وتملأ الكون ضجيج ولكن دون طحين.

في قصة "مباراة" صورت لنا في معراج صريح عن بعض القضايا السياسية والمشاكل اليومية التي تثقل علينا بلزوجتها ولا نستطيع الهروب منها فمازالت الرؤية فيها مضببة غير واضحة ولم تحسم بعد ولم نهتد إلى حلول جذرية فيها من خلال مباراة لكرة القدم بين مصر وأثيوبيا.

في قصة "نكزة" الكاتب يصحبنا إلى عالم آخر غير مؤطر بحدود وهو عالم الأحلام وهو الذي يفيض بالكثير من مكبوتاتنا الحياتية فيرسم لنا صورة كشفرة تحتاج إلى من يفكها لنعرف ويعرف معنا المغزى منها ربما وضعنا على الطريق، إنها غريزة الإنسان وتوقه إلى معرفة الغيب حتى ولو كان من خلال رؤية منامية، فيها يرى أثناء النوم أنه يمضي في أنفاق (والنفق في التعبير يعني الأزمة والعثرة) مجهولة ومظلمة وعراقيل وتيه وإطلاق لأسئلة وجودية حتى ينتهي الحلم على صوت شفيف بعد أن يكون انتهى إلى انعطافة خالية من العراقيل والإبهام وصورة مخملية نوعا ما والصوت يقول له أنا عملك حتى تصور أنه يحاسب ولكن النهاية السعيدة للحلم والتي رأى فيها الخرائط لمختلف البلدان العربية بسمتها وأركانها كما عرفها كانت نوع من الطمأنة كما كل قصص المجموعة أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح.

في قصة "الصاعد" الرائعة رمى إلينا بمفرداتها ليصف لنا حالة الهرولة إلى التطبيع إيثارا للسلامة بينما من رفض التطبيع مع "القضبان المرسومة" تعرض للخطر وأصبح على المحك، فالمصعد ذلك الصندوق الحديدي الذي كثيرا ما يتعطل فإن أصلحوا العطب ونجحوا في التطبيع مع القضبان نجوا جميعا ومن لا يطبع مع القضبان المفروضة يصبح معطل داخل الصندوق الحديدي المتوقف لأنه لم يفعل كسابقيه.

الحقيقة أن هذا التطواف السريع داخل المجموعة التي أتحفنا بها الكاتب المعني والمهموم بالإنسان وآلامه وهويته، تخير لغة بمفردات بسيطة سهلة ولكنها موحية عميقة الدلالة لم يشوبها إلا بعض الأخطاء الطفيفة لابد أنه سيتداركها في طبعة لاحقة، وفي النهاية لا أملك إلا أن أشكره على جميل صنعه وبصمته الواضحة والتي يختلف بها عن غيره.






Share To: