في زمن الموت المجاني هذا، لا تفارقني فكرة ان ندرك "لماذا نحب" الأشخاص الأحياء من حولنا ولماذا نحبهم اكثر عند الفقد والغياب....لطالما كان الموت بالنسبة لي وفي فترات الصبا لغز لم يتقبله عقلي...أوصلني في مرحلة فقدي لوالدي الى التمرد على قوانين السماء والأرض..ثم عند فقدي والدتي الى إلحاد حقيقي وإنكار الله...مع أنني كنت في عمر ناضج...أما موت زوجي أكد لي ان من يموت يأخذ معه جزء من روح وجسد محبيه...فليس الموت حدث فردي...بمعنى أنه يطال الأحياء حول الميت بدرجات تتفاوت عندهم...فبقيت ربما لثلاث سنوات اشعر فعليا أنني مشوهة الجسد حرفيا...كأن إحدى ساقي أو ذراعي قد بُتِرَت...شعرت بأن روحي نقُصَت....وحتى بعد ان شغلتني الحياة بكل انواع همومها التي تطلبت مني كل حضوري وشجاعتي، بقي شيء مني تائه لا يعود...لماذا؟ وحتى عندما كنت أحاور عقلي بأن هذه هي سنة الحياة وتآلفت وقبلت فكرة الموت حتى ولو كان رحيلا نهائيا من الوجود وإن كنت انتظره بلهفة لأتيقن بنفسي عن ماهيته...لا يفارقني الشعور بأن من رحلوا لا زال الكثير منهم موجود وبأن من بقي حيا لم يبق كامل الوجود...هل ذلك لأننا عندما نحب الأشخاص ننسب اليهم كل ما نحب ونصبو اليه من صفات وحسنات حتى ولو لم تكن فيهم؟ فيشكل رحيلهم خوفا من ضياع هذا "الكمال" الذي نتوق اليه من خلالهم؟ لذلك تبقى هذه الهالة في عقولنا بعد رحيلهم لأنها بالأصل هي من "صُنعِنا"...؟ ولذلك أيضا نشعر بالنقصان لأنهم فعليا رحلوا بلا عودة! فكرة اننا نحب "الصفات التي ننسبها لمن نحب" أظنها فكرة الفيلسوف الفرنسي Blaise Pascal قرأتها يوما ما...فيها شيئا من الحقيقة فنحن نحب ذواتنا في أشخاص من نحب قبل أن نحبهم لذواتهم، نحن لا نتقبل أي حبيب يطلب الود إلا اذا "تجاوبت الأرواح" بحسب التعبير الشائع...وللأسف غالبا ما نختزل الآخر بما قد يهمّنا منه...إلا حب الأم والأب هو الحب الغير منتفع والذي لا ينتظر حافزا ما ليستمر...وأيضا عندما أظهر لنا Freud أن رغباتنا تتعلق دائما بهدف ما وتنعكس عليه تعلقا وبالتالي نحن لا نحب سوى رغباتنا، فهو قدّم لنا وجه آخر للحقيقة وليس مُجملها... هناك طريق آخر قد يوصلنا لها...الحقيقة...وبعضنا يسلكه دون الكثير من التدقيق والحسابات....وعبّر عنه بعض المفكرين المؤمنين بذات الإنسان الأصيلة الباحثة عن الجمال والخير في كل شيء ...أي آننا نبحث في الآخر عن كل شيء جميل ونحب فيهم هذا الجمال الذي تحنُّ اليه أرواحنا...فنحن خليقة الله منبع الجمال ومن الطبيعي أن نتوق للمصدر...هذه الفكرة تريح النفس بحيث تؤكد لنا أننا لسنا مدفوعين بغرائزنا وطموحاتنا فقط أي عندما نحب لا نكون مجرد كائنات تطفو على سطح الوجود وسطحية معنى الحب لا بل نغوص الى أعماق الذات كغواص يبحث عن اللؤلؤ... قد يوفق وربما لا..ولكن خلال مشوار البحث هو مدفوع بجمال ما يبحث عنه وهو متأكد أنه موجود في الأعماق حيث يبحث...
أعود لفكرة الموت والفقد والحزن...بلغت خسارتنا للاشخاص قريبة او بعيدة الحد الأعظمي بسبب الوباء...وليس هناك عائلة ما خسرت قريب او صديق او شخص تقدرّه عاليا...وحتى يتهيأ لي ان رحيل عدد الأشخاص المثمرين والذين كان لهم وجود مميز في عالمنا يفوق جدا ما قد نحتمله من خسارات...فلقد كان لنا في من رحلوا الكثير من الجمال والعطاء والمحبة الإنسانية وإلا لما كان رحيلهم أثر فينا ولا زال...
يوجد مقطع رائع في قصة للكاتبة الفرنسية الشهيرة مارغريت يورسونار l’Oeuvre au noir "الهاوية" وهي رواية فكرية فلسفية تاريخية، تدور أحداثها في القرن السادس عشر في المرحلة الانتقالية ما بين عهد الظلمات ومرحلة النهضة والتنوير، حين كانت أوروبا كالبركان والموت سيد الموقف، فالأوبئة والحروب من جهة، وهيمنة وتسلط الكنيسة وثورات الفلاحين ومطاردة المفكرين والعلماء من جهة أخرى.
تقول عن شخصية زينون بطل الرواية، الفكر المتنور الذي يسعى من خلال المعرفة والعلم والتفكير إلى كشف حقائق الحياة خلال تلك المرحلة؛ وقد استلهمت يورسنار شخصيته من رواد تلك المرحلة كليوناردو دافنشي، وكوبرنيكوس تقول : " بكامل ارادته كان هذا الرجل الكهل يهمل الأخطاء والظلال، الأخطاء المرئية مع أنها ظاهرة تطفو على سطح النفس ولا يحتفظ من الكائنات إلا ماهيتهم الأنقى أو حتى ماكانوا يصبون الى أن يكونوه...."كم يشبه زمننا زمن بطل الهاوية...ولكن كم فينا من يملك وعي ومحبة زينون ليستطيع معايشة هذا الاقتراب الرهيب من الموت وفكرة فقد الأحبة أو من نعتقد أن وجودهم هو الدنيا ومعناها...وأن يحسن المحبة طالما هم على قيد الحياة؟؟
Post A Comment: