أخذت كتابي وفتحته من أجل أن أراجع دروسي الشاردة في متاهة التفكير وربوع الأحلام، فتحت الصفحة الأولى بذهن شارد في أودية العدم، وتركيز غائب في جبال اليأس، وهمة مغتالة بواسطة بندقية الأسى والوجع، تلك الصفحة الأولى التي نظرت إليها بعينان ثابتتان، لا يتحركان يمنة أو يسره، وكأني تمثال للحزن منصوب في تقاطع طريق الخذلان والموت.
كانت صفحتي الأولى مليئة بالأسرار، فقد رأيت فيها أبي على فراش الموت، يئن بصوت خافت، المرض يحيط به من كل جانب، يدثر جسده بسحابته السوداء، عينيه ملئيتان بالحسرة والتحسر، ينظر نحوي، يمد يده بصعوبة ويبلع ريقه، ينظر لي بألم، أركز عليه بكل قوة، حتى الحروف في تلك الصفحة تشكلت على هيئة صورة أبي، وبقية الحروف تكومت في زاوية الصفحه مبتعدة عن فواجع الشعور، أحاول أن أحرر قلمي واكتب أحبك أبي، اشتقت إليك، ولكني مطرود، وأنت تعلم ذلك، ولكن قلمي انزوى في يدي، بدأ يرتجف ويتوسلني بأن لا أكتب شيئاً، فقد علم بأنه لا يستطيع تحمل الكم الهائل من الألم الذي سوف أبعثه عبره، لذلك اعتذر مني بعد إن انحنى قليلاً ثم تراجع إلى الخلف قائلاً: عذراً فوالدك اكبر من أن يكتب له كل أقلام الأرض رسالة شوق منك، ستحرقني حرارة شعورك، وسيمزقني لهيب شوقك. تركت قلمي فأنا لا أحب الضعفاء، ثم عدت إلى حيث أبي ولكني رأيته يتراجع ويغيب عن ناظري، تأكلت روحي من أطرافها، احترقت، تمزقت، وبدأت أرى الحروف تأخذ مكانها الصحيح، وبعد كل هذا الشرود وجدت يدي قد كتبت عندما كنت غائب مع أبي هذه العبارة"كل الأرض ترفضنا أبتاه، متى سيكون الخلاص"
انتقلت إلى الصفحة الثانية، وأنا هناك قطرة عالقة في سحابة العزلة، سحابة تائهة في سماء الانطواء مع الروح، في هذه الصفحه تماثل أمامي المستقبل، مر على ذاكرتي طيفه، تساءلت عن هذا الغريب الذي ظهر أمامي للتو، ظللت أتذكر من هو، لقد عرفته من قبل، نعم، ولكن الآن أصبح شاحب للغاية، منهك، ملئ بندوب التعثر، وعلى جسده رصاصات بشعة لا أعلم من وجههن نوحه، تذكرت متى رأيت هذا العجوز! عدت بشريط ذاكرتي، أغمضت عيناي بقسوة فجأة، طعنات توخز روحي، تألمت، جادلت نفسي! لماذا عدت بهذه الذاكرة وأنا أعلم أن كلها أسى في أسى، وحرمان يكسوه حرمان، توقف الشريط فجأة، وفتحت عيناي، رأيته عندما كان صغيراً في المهد، يا لهذه البراءة، كان برئ مثل أحلامي، مثل تفكيري، مددت يدي نحو عنوان الصفحه، فقد كنت أراه هناك، أنه مستقبلي الذي حلمت به، انهمرت من العيون دموع مؤلمة، ونادوا خدودي في الظلمات بأن تلك الدمع هي جمر من جهنم. سألته: هل أنت مستقبلي الذي حلمت بك؟ ماذا جرى لك؟ كيف أصبحت بهذه الهيئة؟ لماذا كبرت قبل أوانك؟ لماذا تذهب نحو النهاية وأنا لم أراك بعد؟ لماذا حفرت قبر لك؟ ومن حفره لك؟ ودمعت عيناي حزنا عليه، وكتمت صرخة كانت ستقتل هدوء الليل الذي يملؤه ضجيج الحرب. التفت نحوي ذلك المستقبل وضحك ضحكة مرعبة، جعلتني أعود من دهاليز التفكير، وكالعادة وجدت يدي قد كتبت على تلك الصفحة وأنا شارد الذهن مع المستقبل هذه العبارة:" مستقبلك غادر الحياة عندما أتيت إلى الحياة.
انتقلت إلى الصفحة الثالثة وكلي أمل بأن ينتهي هذا الكابوس ويجعلني أراجع دروسي بالشكل المطلوب، وفجأة ظهرت أمامي ثمرة السماء، وتبسمت مثل سحابة صيف رحيمة، أتت لتروي هذه الأرض القاحلة وتجعلها أرض خضراء صالحة للسكن والعيش، نظرت نحوي، عضت على شفاتها السفلى وغمرت بعينها اليسرى، وجدت في صورتها ربي الذي اعبده، ذلك الجمال الذي أتخيل به الله كل يوم رأيته أمامي ساكن في محياها ووجنتها، في صورتها الخلود الأزلي والابدي، النعيم السرمدي الذي لا ينقطع، الروح الإلهية التي أرسلها الله لهداية روحي، روح القدس التي أبحث عنها من صغري لالملم شملي، واستعيد توازني، واستمد عبقريتي وتزداد نسبة ذكائي منها، كيف لا، وفي خصرها مركز الكون، وفي صدرها ساحة اعدامي، وعينيها مقصلتي، وصوتها مشنقتي ولو كان رحيم، لأنني كلما أكون بعيداً عنها، كلما قصر عمري أكثر وأكثر، وكلما كنت قريب منها، زادت نسبة الخلود في هذه الحياة. بعثرت حروف الصفحه، ورميت بهم خارج نطاق الوجود، فعندما تحضر يصبح الكون كوني، وعندما أراها أصبح ملك الدنيا، ومن يتحكم بزمام الأمور، ومن يصلح بين سكان العالم. فقط حب وكرامة تبسمي يا مولاتي، فكل شيء يهون أمام عينيك، حتى الذنوب لن تقترب منك لأنك غفران من الله تنزل الى الأرض، توبة صادقة لن يستطيع أي خطأ أن يلحق بنورها. مددت يدي ومسحت على وجنتها، تحسست عنقها، تنفست رائحتها، كانت مسك الجنة، وما في العنق فوجدت طلح منضود، ونعيم مقيم، وما في صدرها سندس واستبراق اتكأت عليهم، وتدثرت بهم، ثم فجأة تحول صدرها إلى بساط سحري طفنا به أرجأ المعمورة بلحظة واحدة، وتهنا في غيابة الشعور والفرح والنشوة، يا أنت يا كل العالم، لا تغادري صفحتي، فأنا صفحة ممزقة بدونك، صفحة دون عنوان بدونك، صفحة دون حروف ولا أهمية ولا موضوع بدونك، تبسمت وظهر من ابتسامتها نور يضيء ما بين المشرق والمغرب، ولكن ذلك الضوء يختفي رويداً رويداً، لا أعلم سر الاختفاء القسري لذلك النور، ولكن ربما حدث سوف يحدث ويغير من واقع الحياة، قالت بعد إن كشفت لي السر: أحبك حباً لن يكون نهايته عناق، سيكون الفراق، ولكن فراق الأجساد وليس الأرواح. دمعت وعدت إلى اليأس، فأنا أحصل على الفرح لحظة واعيش في الوجع سنين، وعندما عدت من رحلتي مع فاتنتي الصغيرة وجدت يدي قد كتبت: أحببتها بعمق أبدي، إني أخاف عليك.
وفي الختام اسرفت يدي ظربا لأنها قالت إني أخاف عليك ورميت بالكتاب والقلم واتصلت لها اشكي إليها حرقة الصدر، وخوفي من المستقبل، دثرتني بدفتيّ صدرها وعدت كطفل برئ.
Post A Comment: