بمقعد في الحديقة العامة مغمضة العينين، أستعيد ذاكرتي قبل سنوات من الآن خرجت من وطني مُحملة بكل تعب وخوف وترقب. أدرت ظهري نحو متاهات الغربة ودهاليز الغياب، عشر سنوات كفيلة لإشتاق لهذه البلاد، مطار كئيب ذلك الذي حطت به طائرتي! الوجوه كئيبة تشبه مطارها! ولأن الوقت متأخراً كانت المحال التجارية مغلقة، مطفئة الأنوار، مثبتة كراسيها فوق الطاولات.. يبدو أن وطني لم يتغير قط!.
إستقليت أول سيارة أجرة وجدتها أمامي، أعطيت السائق الوصف بالكامل وأخذت أتأمل في الشوارع!.
قطع شرودي صوت السائق:
ــ لقد وصلنا وجهتنا.
يبدو الحي مختلفًا تمامًا. كثرت المباني العالية حتى منزلنا تغير كثيراً،نزلت من السيارة مع حقبيتي وشوقي أيضاً، تسربت لجسدي نسمات الصبح الباردة، إبتسمت قبل أن أبدأ بطرق الباب. طرقت الباب مرة وإثنتين وثلاث ثم تناهى إلى مسمعي صوت خطوات تقترب،ودون أن أحيد ببصري تلاقت أعيننا،وقف هناك متسمرًا لبعضِ من الوقت. بادرت ممازحة:أهكذا تستقبلون الضيوف لديكم؟
تحرك نحوي والدموع تسيل على وجنتيه لقد كان أخي إحتتضني كما لم يفعل من قبل وأخذ يردد:إشتقنا لكِ.. إشتقنا لكِ..
في تلك الحظة شاهدتُ ظل يقترب خلفه،تمكنت من معرفة صاحبه من وقع قدميه. هو لاغير ..أبي..
ركضت نحوه ليستقبلني فاتح ذراعيه ويمطرني بوابل من القُبل أحسست ومنذ فترة طويلة بالأمان وكأنني أميرة وهاتان الذراعان حارسيّ الشخصيين.
 إستيقظ بقية أخوتي أثر الجلبة التي أحدثناها،أخذ الكل يصرخ فرحاً لم ننم تلك الليلة تسامرنا حتى الصبح، تزكرنا طفولتنا ولعبنا الغير منقطع والكثير الكثير ..
 أتى الصباح مشرقًا كوجه أمي وصفاء إبتسامتها،متجمعين بعد سنوات طويلة،مر اليوم محملًا بالكثير من الثرثرة والضحك والمزاح الذي يخلقه صديقي يوسف.
 مرت الأيام والشهور،بكل الأسرار والأمنيات، شهد الشارع تزعزًا كبيرًا الجميع يطالب بسقوط النظام الحاكم، جموع غفيرة تهتف وتزمجر، أمواج بشير تتدفق على الشوارع بإصرار عجيب، الغاز المسيل للدموع في كل مكان، ثمة زغاريد تخالط الهتاف، كر وفر في الطرقات، بينما الخرطوم تغتسل تحت وهج شمس الظهيرة الحارقة، يكمن الموت في الأزقة والزوايا. سال الدم على الإسفلت. إستمر التظاهر بذات النسق، تتجمع المواكب لمدة الأربعة أشهر رغم الإضطهاد من قبل العسكر.
 وفي نيسان،كان شغف الشعب وصل ذروته وفي اليوم السادس منه تحرك المتظاهرون صوب القيادة العامة للجيش،تجمعت الحشود وتفرقت بسبب الأجهزة الأمنية ثم تجمعت مرة أخرى رغم الضرب والقتل إستطاع الشعب الوصول. بكى الجميع. الهتاف بالتغير يملأ المنطقة ويزلزل الأرض.ومن هنا كانت بداية الإعتصام.. خمسة أيام بكل مافيها من سهر وتعب ثم جاء الصباح بصوت موسيقى عسكرية تبث من التلفاز والراديو قبل شروق الشمس،تهيأ الجميع، خرج من في المنازل حاملين علم البلاد يرفرف عاليًا، ضاقت شوارع الخرطوم بما رحبت. الكل يحتفل بطريقته الخاصةولكن! جاء البيان المرتقب صادماً وغير مرغوب فيه مما جعل السخط يبدو جليًا بين الناس فأخذ يعلوا الهتاف من جديد.
قال لي يوسف في تلك اللحظة:
الساسة هم عبيد السلطة وللعسكر العقلية ذاتها ولكننا سنتمكن منهم.
 كان يوسف ذا شعبية لابأس بها، أتساءل كيف ومتى أستطاع تكوين تلك الصداقات، ألقى خطابه ليقطع شرودي صوته: مارأيك في ما قلته؟
ــ لقد كنت جيدًا.
-وهل هذا كل شيء؟
ــ مممم كما عهدتك. غمغمت
يوسف.. مازلت أرى فيه ذلك الطفل الشقي العنيد، يميل للكتابة والموسيقى، يعشق الهدوء ورائحة البحر. مع مرور الأيام والظروف التي تمر بالبلاد أصبحت ألتقيه في أرض الإعتصام وهو ينشر الوعي مع بقية الشبان.
 وفي إيار، كان رمضان الشهر الفضيل، كثرت العبادات والصلوات والدعوات الصالحات، كان الإنسجام واضحاً بين الجميع. وذات يوم رفعت نظري، رأيت السماء تتهيأ للإحتجاب خلف السحب السوداء، هطلت الأمطار بغزارة هذه المرة، تساقطت قطراتها على حين غرة فاضت من أثرها الشوارع،فرحين كنا، الجميع يقفز هنا وهناك  ضحكنا كما لو أننا لم نضحك من قبل، تحدثنا وتزكرته وهو واقف أمام باب المدرسة في إنتظاري، يحمل حقيبيتي ويمسك بيده الأخرى يدي، لم يكن لدي الكثير من الصديقات الإناث، لأنني أقضي غالبية الوقت برفقته، نجلس سويًا، نحل الواجبات، يحفظني القصائد وفي المساء يحضر العود ليعزف لي.
ــ تأخر الوقت ويجب أن تذهبي
ــ لنذهب للبيت معاً. غمغمت
ــ كل شي سيكون بخير. لاتخافي
ــ ولكن.. 
ــ الدفاع عن القضايا وقت الحرب تحديدًا أسهل ألاف المرات من الهروب ومحاولة الرجوع إليها لاحقًا هكذا قال. ثم همس:
كوني بخير فقط.. من أجلك.. من أجلي.. من أجل الوطن.
ودعته وتركته هناك يواجه الموت المتربص بهم. أخذت الذكريات تتدفق كالسيل.. تزكرت مزاحه عندما ينهي شراب قهوته يقرأ الفنجان ممازحًا، يرفع حاجبه.. يحدق في فنجان القهوة ثم يرفع بصره نحوي ليقول: ستحبين رجلًا مجنونًا.. تركضين معه حتى يتعب قلبك.. تتوقفين لتلتقطي أنفاسك. يسبقك. يلتفت ليراك واقفة، يعود ليسحبك من يدك وتركضا معاً. سيحبك كوطنه ويدافع عنكِ وكأنكِ الحسنة الأخيرة لإدخاله الجنة، كان يتوقف عن الثرثرة ليرى ملامحي المتعجبة، ثم يبدأ بالضحك. إبتسمت عندما تزكرت كل هذا وقلت بسري"مجنون". وصلت المنزل متعبة ومع ذلك لم أتمكن من النوم، أخذت هاتفي وإتصلت به ليأتيني صوته الدافيء:
ــ كيف كان مشوارك؟
في أبهى صوره.
ــ وذاك الشاب.
- من؟
ــ قرب النافذة. بجانبك. أقصد ذلك الذي كان يجلس بقربك في السيارة. ألم يتحدث إليكِ؟
يا لك من سخيف. ولمَ يفعل ذلك؟!
أخذ يضحك كعادته
ــ حسناً. أسف
لا عليك
ــ داهية
أخرق.
كانت هذه أخر مكالمة بيننا لأنه طلب مني النوم والوقت بات متأخرًا
   ليأتي الصباح كئيباً...صباح حزيراني لم تشهده البلاد من قبل، تم فض الإعتصام، سالت الدماء من جديد، الكثير من الإصابات والكثير من الجثث. بكيت يوسف... بكيت أمهات الشهداء وأخواتهم وحبيباتهم. كمن يسير على غير هدى خرجت للشارع، أبحث عنه في وجوه العابرين، أستجوب الناس وإتصل على أصدقاءه، شعرت بالعار أمام دموع أمه وهي تبكيه.
من اللحظة التي إختفى فيها وأنا أموت ميتة عفنة كل يوم استزفت روحي. أصبح قلبي ثقيل ومتعب، بعيون منكسرة وروح ذابلة أواصل العيش دون هدف، دون وجهة، دون صوته!
كنت أسمع صوت العود حزين ينبعث من أعماقي المتناثرة، السماء ملبدة بالغيوم وكأنها ستسقط علينا، بدأ العالم ضيقًا لا إبتسامات، لا موسيقى، لا أغنيات ولا عصافير! فقط مطر غزير نزل ليغرق المنطقة بأكملها!.






Share To: