ان الأيدولوجية كما هي معروفة في كل الاذهان الباحثة. بحيث تعرف في سياقات معينة بأنها المرجعية الفكرية للشخص والمكانزم المؤطر لأفكاره،كما أنها هي التي تحدد مجموعة من الأهداف في حياته ويسعى إلى تحقيقها من خلال السلوك اليومي الخاص به،فهو لا يعمل خارج الإطار الأيديولوجي الذي يؤمن به بمعنى ان الأيديولوجية هي الشرعية التي تضفي الشرعية على سلوك الفرد داخل منظومته الإجتماعية.

كيف تعتبر الأيديولوجية علة لحرب او صراع بين الناس أو الجماعات أو الدول؟،ان الأمر بسيط جدا من حيث كونه نسق نظري فكري وعملي واقعي سلوكي.  بحيث ان كانت هناك شرعية معينة تمنح لي الحق في هذا الفعل او ذاك،فمعنى ذلك أني أتصرف بكل حرية اتجاه الفعل او عدم الفعل،وربما أكون مجبور على القيام بالفعل إن كنا نتحدث عن الأيديولوجية الدينية.

من خلال الفعل الشرعي وفقا لأيديولوجية ما،التي تمنح له مجموعة من التبريرات ليكون وجود هذا الفعل غير مثير للنفور،بل احيانا تحاول البرهنة على ضرورة وجوده كحل لضرب من المشاكل التي يعاني منها المجتمع،او المشاكل المحتملة ان لم يحدث مثل هذه الأفعال التي تبررها هذه الأيديولوجية او تلك،وبما أن الأيديولوجيات متعدد ومختلفة،بل متناقضة في كثير من الأحيان،فذلك يجعل كل أيديولوجية تنظر الى نفسها السبيل الذي يقود العالم والوجود الى النعيم،والأديولوجيات الأخرى هي التي تحجب هذا الوضوح على الناس مما يجعلهم يقعون في الأخطاء بالتالي وجود مشاكل اجتماعية وغيرها لا حصر لها.

لكن هنا بالضبط يجب ان نتساءل: لماذا تعدد الأيديولوجيات؟ وما وعي الفرد اتجاه الانساق الأيديولوجية؟ وما الأبعاد التي تتأسس من أجلها الأيديولوجية؟

في رأيي ان الجواب على هذه الأسئلة إن كان كافيا سيحسم اية محاولة في إطالة التحليل،اذ تكون بدون فائدة،والآن سنحاول تقديم اجابة على كل سؤال ولنرى أين سينتهي بنا هذا البحث.

أولا: إن التعدد الأيديولوجي محكوم بما هو واقعي ووجودي في الحياة الإنسانية بحيث نجد مجموعة من التصورات التي تتبنى فهم العالم سواء الإنساني او غير الإنساني،وبذلك تعطي المشروعية لمجموعة من الممارسات الواقعية المؤثر على مسار الوجود في بعده الواسع اي التاريخي وأيضا في البعد الضيق اي انه يؤثر على الاسرة او القبيلة او.... لكن هنا لا نكون قد اجبنا على السؤال البتة.

في القدم كان هناك فكرا معينا حول العالم الا انه لم يلائم كل العقول اذ بعد اخضاعه للتحليل والتأمل اكتشف فيه خطأ ما،وهنا اقصد الحركة النوعية الحاصلة بين الأسطورة كمنظومة فكرية تفسيرية للعالم،والفكر الفلسفي والتأمل العقلي الذي خلق نوع من الثورة على كل ما سبق،وهذا يعني ابتكار تصور أيديولوجي جديد له تفسيرات جديدة للوجود الإنساني في مختلف الأبعاد،وخاصة الأخلاقية بحيث ان مفهوم الأيديولوجي يهدف الى التجلي بعلة رؤية نفسه ذاك النسق الصحيح الذي يجب ان يسير الإنسان في افعاله وفقا لما تقتضيه مبادئه.اي الاخلاق التي تأسس عليها.

كإشارة توضيحية بالنسبة للأيديولوجيات التي تنطلق من أسس مطلقة وتابتة المحكومة هي الاخرى بالإبداع في فهم الوجود الإنساني هي الأكثر فعالية داخل الصراعات الانسانية.ولا غرابة في الموضوع ان ذكرنا هنا الاذيان باعتبارها تتبنى مجموع من الأفكار التي تتدعي فهم العالم والحركة التطورية الخاصة به ، كما انها لا تقبل بتجاوز هذه الأفكار بكون اي تجاوز لها هو موتها،وبالتالي انبثاق فكر أيديولوجي جديد. وفي الحقيقة هذا ما يحصل على الدوام ضمن الحركة التاريخية الانسانية.

اذن بالإجمال فالتعدد الأيديولوجي ينطلق من أساس مطلق يفسر الواقع دون القبول بالتجاوز او التطور، ولو كان يقبل لما وجدنا أيدولوجية واحدة تستوعب كل التطورات التي ترافق التاريخ الإنساني.
فكل مرحلة تاريخية تستمد شرعية وجودها من أيدولوجية معينة، لكن هذه بدورها غير شرعية اذا ما نظرنا إليها من جهة أيدولوجية أخرى مختلفة عنها مما يعني شرعية اللاشرعية، بمعنى نملك أيدولوجية تشرع وجود تحول تاريخي معين، لكن هذه الشرعية لا شرعية مقارنة من الأيدولوجية السابقة لها ،وهنا ربما يمكنني التطرق إلى الحركة الماركسية بين الانظمة الرأسمالية والانظمة الشيوعية من جهة ومن جهة أخرى علاقة هذا وذاك بالأنظمة الكنسية أو الإقطاعية.

ما قبل الرأسمالية في أروبا كان النظام نظام إقطاعي كنسي ،المتكون من الأسياد والعبيد ومن الطبيعي أن نجد الكنيسة تشاطر الأسياد وتمدهم بشرعية وجودهم وسلطتهم السياسية وهي في ذلك تخدم وجودها من خلال الأسياد وهيمنتهم على الدولة أو المجتمع، كما تمد العبيد أيضا بجزء أيديولوجي من نسقها الفكري الكامل حتى لا يرى العبد وضعية وجوده الإجتماعي وضعية مثيرة للنفور أو التمرد. وهكذا تكون الأحكام أو الأفكار التي تحكم وجود هذه المحطة التاريخية متناسقة بين العبد والسيد.
بعد هذه الفترة ظهرت الحركات الثورية الإنسية مع مجموعة من الفلاسفة الذين يؤمنون بحرية الإنسان وقدرته على خلق وضع يناسبه ومن اختياره وملائمة للمرجعية الفكرية التي يتبناها هذا الإنسان الجديد، والتي ترمي الى خلق أيدولوجية جديدة محاولة تجاوز الأيديولوجية الكنسية وبهذا المنطق نكون قد خلقنا فكرا جديدا يتمحور حول القدرة الانسانية الغير محدودة وفعاليته في وجوده تماشيا مع ضرب من القيم الإنسانية،كإلغاء العبودية والإيمان بقيمة الحياة والحرية والعدالة إلى غيرها من الأفكار الأيديولوجية.

مع هذه المرحلة التاريخية ظهرت الرأسمالية كحركة اقتصادية تجسد قيمة الحرية في الاستثمار والتبادل الحر بين المستثمرين، وذلك بتواز مع نظام سياسي مؤسساتي محكوم بقواعد ديمقراطية الوجود تشرف على التسيير والتدبير داخل الدولة. لكن مع تطور النظام الرأسمالي تجاوز مرحلة القيم الإنسانية ،الى نمط الاستغلال ومن طرف الشغلين وتعتبر هنا طبقة العمال هم الضحية في هذا الطغيان الجديد، وبما انه حدث مشكل ما فاصبح هذا التاريخ في حاجة الى منعطف جديد وهو الذي سنراه مع الشيوعية في شخص كارل ماركس.

في هذا الاطار يرى كارل ماركس الحل لتجاوز اي إمكانية للاستغلال هي توحيد كل المجتمع في طبقة واحدة وهنا يطرح مجموع من التبريرات الأيديولوجية والتي ستكون طعن في شرعية وجود الرأسمالية وهذا الطعن يحصل في الاستغلال الحاصل في صف العمال. كما يطرح افكار مناهضة لهذا الاستغلال وهي الملكية المطلقة او الاشتراكية أو الشيوعية. وما يعطي شرعية لهذا النظام الجديد هو غياب ميزة الاستغلال السلبية داخل نمط اشتغاله.
لكن حسب ماركس فالأيديولوجية باعتبارها تتوقف أينما يتوقف التاريخ، والتاريخ يتوقف أينما يتوقف الصراع، والصراع يتوقف في الاشتراكية، مما بجعلنا ان نقف عند تعريف ماركس الأيديولوجية من أجل فهم أوضح: هي افكار ووعي اجتماعي زائف، يبرر وجود الطبقة المسيطرة واستغلالها المستمر في حق طبقة العمال. وهنا بشكل ضمني ينتقد المستثمرين داخل النظام الرأسمالي والافكار التي تشرع وجودها.
تانيا: حول علاقة الفرد بالانساق الأيديولوجية.
ان العلاقة الجامعة بين الفرد والأديولوجية هي علاقة استعاب فالأيديولوجية ناتجة عن إدراك الانسان لضرب من الأفكار والقيم التي لم يعد الوضع الراهن يستوعبها، وبالتالي ابتكار نسق فكري وأيديولوجي يشرع لنمط وجودي جديد وفقا لتلك المباديء التي لم تعد ممكنة الوجود في النسق الفكري السابق.
        إذن الفرد مكمل لوجود الأيديولوجية إذ لا يمكننا أن نتحدث عن أي فكر خارج الذهن البشري سواء في الحاضر او الماضي أي التاريخ . وكذلك الأفراد لا يمكن ان يعبروا عن وجودهم الا في سياق أيديولوجي معين،يمكننا ان نعتبر وجود الإنسان من الجانب الفكري مرهون بالأديولوجية كأفكار،لكن هذه الأخيرة مرهونة فقط بالوجود الاجتماعي،لان هذا الوجود هو الذي يعطي الطابع الفكري للشخص،فنحن لم نعرف شخصا خارج مجتمع ما،اي هناك مثلث يقوم عليه الوجود،وهو المجتمع،ثم الأيديولوجية،ثم الإنسان،ولا أقصد هنا الإنسان كجسد، بل كفكر،وكفاعلية في خلق منعطفات في طبيعة التفكير الإنساني.
           لكي نقف عند هذه الفاعلية الانسانية،لابد ان نقف عند مثال تاريخي،ومن خلاله سنفهم كيف يتطور الوجود الإنساني،والوجود الأديولوجي.
          والمثال الذي أختاره في هذا السياق هو التحول الحاصل في المجتمعات الأوروبية بين النظام الكنسي،والنظام العلماني الديمقراطي،.ففي أروبا كانت الكنسية مفروضة على المجتمع كفكر بموجب الحق الإلهي،وهي التي تبتكر القواعد التي يجب أن ينهجها المجتمع المؤسساتي ذو الطابع الديني الكنسي،التي تؤطر الحياة العامة والإجتماعية لهذا المجتمع أو ذاك.
        إن الكنسية لقد فشلت في الحفاظ على وجودها بسبب العلوم الحديثة،ومن هنا يمكننا أن نقول إن الكنيسة لم تكن علمية بأي شكل من الأشكال.وهنا نتذكر غاليلي وكوبرنيك والثورة العلمية التي إنبثقت مع أفكارهم،التي كانت تخالف تماما ما تقر به الكنيسة في تصوراتها حول الكون،ولما انتصرت العلوم الطبيعية على الكنيسة،انتقلت هذه الحركة الى العلوم الإجتماعية بمختلف أشكالها.هنا بدأ الباحثين يتساءلون حول العدالة والحرية والإيمان والواجب الإلهي،وكما تم التساؤل حول الذات الإلهية من خلال الصفات التي تقرها الكنسية بإسم الله.
       إذن في هذه الفترة بدأت الأديولوجية الدينية الكنسية تتزعزع،ولم تتمكن من الحفاظ على توازنها،بحيث بدأ الفلاسفة يجتهدون ويطرحون تصوراتهم الخاصة حول الوجود الإنساني،وأحيانا الإلهي أيضا.مما توصل البعض منهم إلى تأكيد الأديولوجية الكنسية نفسها،والبعض الاخر توصل الى ما يناقضها.فالقديسم أنسلم وطوما الاكويني،وغيرهم كانوا من أنصار الأديولوجية الكنسية،بينما الفريق الآخر توصل على نقيض ما تقره الكنيسة.اذن الاهم هو ان بداية نشوء أيديولوجية جديدة بدت واضحة وقوية أيضا،وهنا نجد مثلا نحد روسو مونتسكيو وغيرهم توصلوا الى وجود اجتماعي ديمقراطي القائم على المؤسسات الشعبية لا الكنسية،ومع مرور الوقت ستصبح هذه الديمقراطية كوعاء للحرية الإنسانية،ما يطلق عليه بالعلمانية الديمقراطية.
        تميزت هذه الأديولوجية الجديدة القائمة على المؤسسات الشعبية،بعدة إغراءات منافسة لمميزات الأديولوجية الكنيسة،اذ مع الأولى وجد الإنسان نفسه فاعل في وجوده في شتى المجالات السياسية والاقتصادية في ظل تطور الرأسمالية الليبرالية،كما انه حر في توجهاته الفكرية ولا يمكن محاكمته عن أفكاره الخاصة.وهذا على عكس ما كان سائد في الأديولوجية الكنسية،التي كانت فئة فقط من تشارك في الوجود الإنساني الإجتماعي.وهنا أصبحنا مؤطرين في أديولوجية جديدة تماماً.
ثالثا:إن أبعاد الفكر الأديولوجي شاملة ومتكاملة،على مستوى السياسة والاقتصاد والمجتمع.بحيث حينما تتأسس على أرضية صلبة،وتكوين الميكانيزم الخاصة بحركتها،الذي هو ذاته الذي يشتغل في مستوياتها المختلفة (السياسة،الاقتصاد،المجتمع)،ولهذا نجد تكامل أديولوجي بين كل هذه الأبعاد.
       في البعد الإقتصادي قد نعرف التأثير الأديولوجي مع الحركة الإشتراكية (كارل ماركس)،اذ ماركس ينطلق من ضرب من الأفكار الأديولوجية التي تنصب في تحقيق العدالة الاجتماعية والاخلاقية،وحفظ الافراد من الاستغلال. إذن فيما الإشتراكية تنتقد الرأسمالية انطلاقا من ايديولوجية مغايرة في المقابل نجد أيديولوجية رأسمالية تقوم على مفاهيمها الخاصة مثل الحرية كجوهر الإنسانية وتحقيق الفاعلية للفرد داخل وجوده. وهذه الفكرة المؤطرة في الايديولوجية الرأسمالية هي نفسها التي قامت عليها الثورات الأوروبية.
         أما في البعد السياسي نجد أفكار فلاسفة العقل الاجتماعي هي التي لازالت فعالة وذات قيمة معرفية مع بعض التغييرات الطفيفة التي طرأت عليها لتتحول إلى العلمانية الديموقراطية والمشاركة الشعبية الحرة في الحياة الوجودية للإنسان وهذا ما نعبر عنه بالقول التالي: " حق الشعوب في تحديد المصير".













Share To: