وضع نظارة سوداء على عينيه، لم يعد يرى سوى العالم بلون زجاج داكن. ما أمامه أصبح أشباحا تتراقص بالغرفة التي أطفأ ضوءها ليستقل مركبة النّوم. خلف النظارة يغلق عينيه، يتشبث بقليل من الضّوء المتسرّب عبر النافذة التي تصرّ والدته كل ليلة على سدل ستارها، يستفيق يشعل النواسة، يفتش في درج طاولة النوم على مهدّئ أو حتى قرص منوّم، لا يجد، لا يستطيع أن يترك عينيه مفتوحتان إلى الصّباح، لكنّه لا يمكنه النّوم وهما مغلقتان، كان مجبرا على غلقهما، فتتبدى له الخيالات والعوالم الخفية والألوان التي لا يستطيع تحديد طبيعتها، موزاييك من الحركة:

ـــ عالم ماوراء الطبيعة أصبح لدي مجسّما ومحسوسا. 

تذكّر يوم كان أبوه بجانبه وهو يذاكر محاضرة الفلسفة، وسأله عن معنى الميتافيزيقا، حينها بدا له أنّ عالم الفلسفة كله لا يساوي براءة هذا السّؤال، ولم يدُر بخلده أنّ مثل هذه الأسئلة تدور في أذهان العجزة، يستعيد تلك اللحظة جيّدا، ويردّد جواب أبيه عندما أخبره بأنّ معناها هو ما بعد العالم، قال له الأب:

ــ معناه حدود العالم، أي عندما أصل إلى نهاية الأرض سوف أقفز في الميتافيزيقا؟

ــ لا ، عند نهاية الأرض تبدأ حدود الكون، وعند نهاية الكون تبدأ الميتافيزيقا.

ــ لكن من قال بالميتافيزيقا؟

ــ فلاسفة اليونان..

عندها سوّى الأب من جلسته وفرك عينيه، تأوّه، ورفع أصبعه بالشّهادة ثم استعدّ ثانية للاستلقاء بعد أن عدّل من منامته التي اختلفت فوق جسده النّحيف وقال:

ـ لقد أخطأ فلاسفة اليونان، كانوا يقولون الموت ويكفيهم ذلك.

أخذه السّهو والتوهان، ثم التفت إلى أبيه محاولا أن يفسّر شيئا ما، لكنه كان قد غطّ في نوم طفولي عميق..

أعاد غلق عينيه وراح يذرع عالم خياله الفسيح والمحسوس، إلى أن أطلّت نسائم الفجر الأولى، حينها وجد نفسه منخرطا في تفكير عميق حول الموت، والشّرفة التي يطل منها على نهاية الكون، الظّلام الدامس يتسلّل إلى عينيه، وقلبه لا ينبض سوى بدقات خفيفة تشبه قرع طبول الحرب في انتظامها، لم يشعر أبدا في حياته بتلك الضربات المنتظمة لقلبه، رفع كوب الماء عن طاولة النّوم وأغرق به حلقه الجاف، نظر في الكأس عميقا فبدت له صورة الغرفة مكسّرة الملامح تتوالد فيها الأشياء كما مخلوقات عجيبة، فزاد إلى خوفه من الظّلام خوف النّظر من خلف الزجاج، الأشباح تتوالد وتحيط رأسه بعالم من عدم، لم يشرب يومها قهوته، أجّلها إلى حين جلوسه بمقهى الحياة المحادي لمقر عمله.

في المقهى نادى على النّادل وككل مرّة لم ينس أن ينبّهه إلى ضرورة إحضار القهوة في فنجان، نسي أن يسأل عن حالة جارهم العجوز الذي غدر به المرض فجأة، تأمّل كلمة "غدر"، ردّد في أعماق نفسه "الغدر"، ثم استرجع صورة العجوز:

  • لقد شبع من الحياة، ذاق كل ملذّاتها وآن له أن يغادر.

بدا غير متأكد من فكرته هذه حول الحياة، لكن ما طوّق خياله فجأة هو حال الجار، وإن كان مرض الموت هو ما ألمّ به أو مجرّد مرض عابر؟

أحضر النّادل القهوة. عاين الفنجان مليّا كما العادة، ثمّ نظر في جاره على الطاولة وقال:

  • قهوة مميّهة لو كان الماء وحده لكان أثقل منها، كأنّها تقدّم في عزاء.

حرّك الزّبون فمه ببسمة مفتعلة ثم أدار وجهه نحو صديقه وانخرطا في حديثها الذي قطعه عليهما صاحب النظارات السوداء. وضع نظارته جانبا على الطاولة ثم نادى ثانية على النّادل، طلب عصيرا محلّيا، وراح يبعثر أصابعه على شاشة هاتفه النقال مسافرا بين الصفحات والمواقع، لم يفق إلا وعينا النّادل مغروزتان معه في الشاشة، فأفلت سعلة خفيفة، كحّة كما كان الأجداد يرسلونها كلّما حضروا البيت، ربّما لتتجهّز الزّوجة لاستلام الأوامر، وكذلك استلم النّادل الأمر مشفّرا فانصرف في ارتباك مموّه بضحكة واستجابة لطلب زبون آخر.

شعر براحة يد خفيفة على ظهره، كان رضوان، الصّديق المغامر في مدن العالم، الخبير بطقوس الوداع، حرّك قبّعته "البِرِيه"، نظر في وجه صديقه وأرسل ضحكة، ثم سأل:

  • لماذا تعشق النظارة السوداء وأكاد أجنّ بالبِيرِيه الأسود؟ 

  • آه الأسود لا يليق لا بك ولا بي، له أهله، كدت أن أقول لك أنّه لون الموت، مع أنّ لون الموت عندنا البياض، ترتدي النّساء عباءات بيض حزنا على فراق أزواجهن.

  • الموت يا صديقي له أيضا لون الفرح !

  • هل تفرح الزوجات بموت أزواجهن؟

  • لا تتعجّل، يا صديقي، الفرح في الموت عميق ولا يعبّر عنه بالأفكار، إنه حالة متماهية مع الحزن. لماذا ينطفئ الدمع شيئا فشيئا كلّما وارى التراب الجثة؟

  • ولكن في الذاكرة يبقى خيال الميّت يطوف بنا ويقلّب صفحات الماضي.

  • نعم لأنّ الموت ليس نهاية المطاف. 

كادت فكرة "الموت ليست نهاية المطاف" أن تخذّره، إذ ردّد في عمقه وبصدى كبير الميتافيزيقا ليست سوى الموت، 

  • "صدق أبي وأخطأ الفلاسفة".

أنهى الجلسة مع صديقه وتركه يحاسب الثمن وغادر في عجلة. كانت وجهته المنزل إذ ما كاد يصل الحي حتى سمع أركانه تهتز صراخا وعويلا، لقد توفي الجار. أقيمت خيمة كبيرة تشارك الجيران في شرائها وبعضُ مستلزماتِ مثل هذه المناسبات، 

  • حتى في النّهايات لا ننسى كيف نسجّل بداية ما.

توجّه مباشرة ليعزّي أقرباء الميّت، محاولا أن يجلب شيئا من الدّمع، ففشل، 

  • غير ممكن أن يكون الموت بغير بكاء..

توهّج في خياله سؤال الخلود، وفي نصف المسافة بينه وبين ابن الميّت سمع همسا خفيفا بين معزّيين، 

  • كان الفقيد مهووسا بحب العطور.

لم تنس العائلة أن تذكر أن الميّت لم يكن مصابا بالكورونا. هيّأت له جنازة كبيرة، لم يسِرْ فيها سوى القليل من النّاس، مكمّمين لا يفارق أيديهم بزّاق المطهّر. مسك بيديه على حافّة باب السيارة التي يرقد فيها نعش الفقيد ثم قفز إلى جانب أقارب الميّت، وراح يوشوش في أذن أحدهم. تعالت القمرة بالتكبير والتهليل، فانفلت منها ونزل متوجّها إلى بيته تلف أنفه وفمه كمامة مغرقا يديه في سائل مطهّر،

  • الموت ليس نهاية المطاف.

ردّد كثيرا هذه الكلمات متذكرا المقهى وثمن المشروب الذي لم يتمّه. شعر بألم في رأسه، مدّ يده صوب جبهته، الحرارة مرتفعة، خور أصاب رجليه، لم يقدر على صلب طوله، تلاشى متهالكا على الكنبة، مدّ يده بصعوبة إلى صدره محاولا فك اختناقه المتواصل، سعلات متتالية أدركته، وبصعوبة راح يبلع ريقه، من خلال شق عيينه الصّغير قبل أن يطبق عليهما الظلام تراءت له طاولات مستطيلة من تراب وأجساد وسط قطعِ قماشٍ أبيض، وكؤوس عصير شبيه بما كان يطلبه في المقهى.








Share To: