غارق في تفاصيل قصيدة تمتزج فيها الأحاسيس المتقابلة بشكل مريب، أحاول أن أشكل من الظلال التي تساور مخيلتي مشهدا قابلا للتفسير، يكاد هذا الإحساس الهلامي المتذبذب، أن يلتهمني ويعزلني عن المكان والأحداث التي تدور فيه ، أصارعه وحيدا هنا في الركن البعيد من المقهى، لا صديق لأبادله أطراف الحديث.
أشكل على وجهي تعابير الإطمئنان لأبدو أكثر هدوءا، قهوتي السوداء تناسب ليل فبراير الذي يغرق مدينة وجدة الكئيبة في البرد والسواد ، لست وحيدا فعلبة السجائر على طاولتي تشاركني تفاصيل هاته الجلسة الصوفية و هدير الرياح يكسر الصمت، أراقب المشاة المسرعين وهم منشغلين كل منغمس في روتينه إلى حد الإنصهار أدون تاريخ اليوم على مذكرتي ، أستشعر بالمكان ضجرا وصمتا مريب ، ألتفت لأتفقد المكان ، غادر رواد المقهى ما عدا النادل ورجل يجلس بالركن المقابل ، أمحص النظر إليه، لحيته البيضاء والتجاعيد على يديه وجبينه ، تحيلني إلى أن أفترض أنه في عقده السادس ، يتفقد هاتفه بين الفينة و الأخرى ، يرفع يده فيلقي علي التحية ، أهز رأسي وأبتسم .
يرتدي معطفه ، يرتشف أخر رشفة من قهوته ، فيغادر المقهى ، أحمل مذكرتي فأخرج أيضا ، نعبر معا نفس الشارع ، ومضات البرق تكشف علة في قدمه اليسرى ، نسير بنفس الإيقاع ، هو لا يحتمي من قطرات المطر ولا أنا أفعل ،يعزل نفسه تدريجيا نحو الجدار الطويل ، ثم يخفف من وقع خطواته ، أواصل المشي ، أتجاوزه ، أسير وأتتبع أثره بأذناي وقع أقدامه على البلاط يخفت ، لكنه لا زال يواصل المشي ، لحظات قليلة ينقطع الصوت من ورائي ألتفت ، لأجده جالسا عند عتبة بيت مهجور ، أقف في زاوية غير مرئية من الشارع ، أشعل سيجارة وأراقبه ، يزيل معطفه ، يضعه على نافذة البيت ، أقترب منه بدافع الفضول ، أقترب بحذر شديد، قربه تمام أجلس لأدخن ما تبقى من سيجارتي ، أحاول أن أبدو هادئ لكي لا أزعجه بصمت ، يذرف دمعا حارقا مصحوبا بتنهيدة ، فيقول : كنت بمثل عمرك تماما ، نسجت حلما جميلا ، وحاربت من أجله ،كنت صحفيا في بداياته وإستطعت أن أحقق الكثير في وقت وجيز ، أحببتها بجنون وهي أيضا كانت تقول نفس الكلام ، وأنا أبلغ ربع قرن ، إكتملت القصة ، اشتغلت صحفيا بشبكة إخبارية وعقدت القران بمريم ، مضت ست سنوات حتى صرت أملك بيتا وسيارة ، كان كل شيء مرتب وجميلا كما اعتقدت حينها ، كالعادة كل صباح أصطحب إبنتي إلى المدرسة ، إستفقت في تمام الساعة السابعة ذلك اليوم، لأجد زوجتي تحدث أحدا على الهاتف بالمطبخ ، بادرت بالسؤال من تحدثين ؟ أجابتني ، أحدث أختي ، بدأ الشك يخالجني مصحوبا بوخز الخذلان ، خرجت رفقة ابنتي التي تبلغ من العمر خمس سنوات حينها، أوقفت سيارة أجرة طلبت منه أن يقلها إلى المدرسة ، اتصلت برفاقي في العمل وأخبرتهم بأني لن أحضر لعذر صحي ، جلست بالمقهى المقابل للبيت ،مضت نصف ساعة ، سيارة صديقي تقف عند باب منزلي ، ترجل منها فتحت زوجتي الباب ، تعانقا بكثير من المبالغة لم أستطيع أن أثبت بمكاني ، غادرت المكان مسرعا بسيارتي ، جلست وحيدا أحاول أن أفهم ما الذي يحدث بالضبط. أقنعت نفسي بأنه يجب علي أن أواجهها ، في طريق العودة ، وبالضبط أمام المدرسة التي تدرس بها ابنتي ، رأيت مجموعة من الناس متحملقين حول سيارة الإسعاف ، إقتربت لأجد ابنتي جثة هامدة "
يشعل سيجارة ويمسح الدمع عن وجهه يقول : سنوات مضت وأنا أحمل معي هذا السر ، دون هذا في مذكرتك لأني سأغادر هذا المكان ، لن أتحمل أبدا شفقة الناس ، بعد خمسة أشهر من تاريخ يوم الخميس الأسود أجد نفسي وسط مصحة الأمراض النفسية ، شرحت لي الممرضة ما وقع ؛ تعرضت لحادث سير ذكرتني أن اسمي أحمد أب لطفلين وأن ابنتي توفيت بحادث سير ، أما زوجتي فقد شاعت الأنباء أنها غادرت البلد رفقة صديقي وابني زكرياء،.
يخيم الصمت على المكان، بعدها يخرج صورة ابنته من معطفه يقبلها فيغادر أراقبه وهو يعبر الشارع ، يختفي تدريجيا ، حتى اندمج لون معطفه الأسود بسواد المعبر، اجلس .. أحاول أن أفك شفرة هاته القصة المريبة أنظر إلى المكان الذي كان يشغله ، أنتبه لوجود ظرف، مكتوب عليه يوما ما ...، أخذت الظرف وضعته وسط المذكرة وانصرفت .
وأنا في طريقي نحو البيت تجتاحني موجة أسئلة وفضول غير مسبوق ، ما إن وصلت دخلت غرفتي ، بعد أن أيقنت أنني وحيدا فتحت الظرف ، لأجد به رسالتين وصورة
الرسالة الأولى قديمة جدا ، أول ما قرأت هو التوقيع ، كانت لمريم زوجة أحمد، كان خطابا عنيفا وكلاما قاسيا ، أول ما فتحت الظرف تكهنت أنها رسالة إعتذار ، كانت تعاتبه وتخبره بأنه شخص فاشل ، وأضافت بأنه هو السبب في وفاة ابنتها، وأنها ليست آسفة ، أما الرسالة الثانية فهي تحمل توقيع أحمد المتشرد ، يبدأها بعبارة يوما ما ..ويقول فيها : يوما ما سأبدأ رحلتي الأخيرة ، نحو الأفق البعيد، سأسافر وأحلق حرا طليقا من كل إحساس ، يوما ما سأكون هناك أو هنالك ، سأصير ملاك ، سأقنع بالظلمة والصمت ، وسأمضي ما تبقى من عمري على رصيف ما.
Post A Comment: