دائمًا ما كنّت أفضل اللامبالاة بأي شيء، هروبًا من خوف يكاد يجردني من الحياة، كانت تحسبني أمي بلا قلب، باردة، وجافة أيضًا، كانت تلك الكلمات تجرحني، ولكن لم أكن أعيرها اهتمام بل احاول أن اتصنع الإهتمام، حتي لا ينكشف الخوف، ويرتدي ثوبه القبيح، هذا الرداء الذي أعهده كل يوم وحدي..، تمنيت في تلكم اللحظة أن يأخذني الله، كل يوم علي موعد من الهلع، والاضطراب، والخوف من الجدران، وشياطين النوم،تمتم لي بأنها تريدني، كل يوم مع صوت دقات الساعة، مع ضلالة التيه، مع أفكاري، تتمتم لي بأفكار غير معقولة، التي لو سمعها أحد لفر منها هاربًا، ومع كل هذا اخترت أن أظهر بوجهي البارد، الذي لا يبالي بأي شيء، ويحمل هم الدنيا كلها في المساء وحده.. 
ثم يستيقظ ليتصنع ابتسامه، ليمرر يومًا أخر بلا خسائر نفسية فادحة، أو تحدث لا يهم..، ليقابل الفرد منا أمراض المجتمع، ويري أمراض يحاول البعض اخفاؤها، ونحن نكمل معهم قصة التصديق، وندعو لهم بالشفاء، نعم اختار أن اتعامل مع الظاهر، مهما كان المخفي أكثر وضوحًا-بالنسبة لي- ثم ترسل قهقهات مهترئة بين الجموع، وتمضي .. 
أؤمن بأني أحب نفسي، ولكني أشفق عليها أحيانًا، بأنها خفيفة، وتمتلأ كل يوم- غير قاصدةٍ-بقذارة العالم، ليت الكحولًا يزيلها، 
أيًا يكن،..
كنّت أعود مارةً بالحاج سعيد، وهو يحمل القمامة من أمام بيتي، ويبتسم وكأنه يملك الدنيا، ويتمتم بذكر الله، كنّت أقول فاقد الشيء يعطيه وبشدة، تمنيت لو أعطيه قلبي، ليرسل إليه بعض الهدوء، ولكنني خفت أن يهرع منه لو رآه، كما هرع الجميع...
أحببت أن أراه يبتسم، أحببت هذه التمتمة، شعرت فيها بالله، شعرت بأسواره تحتويني،وتحاوطني، رغم أني أفتقد الطمأنينه أكثر من أي شيء، إلا أن الحاج سعيد كان كبسولة تدوم ساعة، وددت لو أهديها لأمي، ولكنها كانت تقابلني في الساعات الأكثر حلكة، شعرت بأن اتصالي لها ما هو إلا ذنب لها، شعرت بأني عدو للمدينة الأكثر أمانًا، شعرت بأني مرض لطبيب، شعرت بأني أرض بور لفلاح يوّد زراعتها بشدة، شعرت بأني كل شر ينتمي للخير، ومع كل هذا كانت تنهي حديثها قائلة " سأظل أحبك لو نَفَر منك الجميع، ستظلين اختياري الأول، لو جعلك الجميع اختيار اخير، ستظلين ابنتي"
كنّت أشعر بأني خرساء، رغم أني امتليء بالكلمات، أما عيني كانت تبكي بحرقة، كأنها كانت المحارب الأعظم لهذه المدينة، وصار العبء الأسود، الذي لا يستطيع حتي التخلص منه بنفسه، 
أما هذا اللسان كان يقول:
" إلهي إلي متي يا إلهي.. إلهي أنا متعبة، إلهي هل تسمعني؟ 
إلهي متي سيحل النور؟ إلهي لقد قرأت أن لا شيء يسمي أربعة وعشرون قيراطًا، وأن هذه الجنة ليس فردوسًا، هل هذا يعني أن هذا قدري؟ 
إلهي أنا خائفة أيضًا منك، أنا بعيدة.. 
هل كرهت انبعاثي؟ فثبطتني؟ هل أنا من الضالين؟ أما أنا من أصحاب الإبتلاء؟ 
إلهي أنا متعبة، أريد النوم.. أريد أن أكون بخير.. أخاف أن أطلب الموت.. فأنا لست جاهزة، ولا أخفي عليك يا غفور أنا لا أعلم متي سأصبح جاهزةً..."
أما الروح .. فهي تجري بحثًا عن الأمان، فتتعلق بأشياء وهمية، وتخلق حياة غير حقيقية، وحبًا ليس موجودًا، وأنا وهي نعلم أنه هراء، ولكنه قشة الغريق...
تنظر إلي كجثة ولا تستطيع أن تتركني هكذا، فتدخل في تمتمة الحاج سعيد، وفِي وجه أمي، وفِي عين محب، وفِي اهتمام أبي، لعلني استيقظ، ولكنني في النهاية أخبرتها أننا لا يمكن أن نستفيق باختيار الوهم، لا يمكن أن نعتمد علي شيء غير الله، ثم الوقت... 
رغم أني طبيبة، إلا أنني أؤمن بأن شفاء الروح والجسد يبدأ من إرادة الله مرتبطة بإرادة الإنسان، أما الطبيب فلن يري شيء خلقه الله، "ويسألونك عن الروحِ قل الروحُ من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا" 
لا نمتلك شيئًا أقوي من الدعاء، أما الحياة فلا تستحق كل هذا، لم تخلق فردوسًا، ولن تصبح فردوسًا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. 
حين كنّت أذهب المشفي، وأري الخوف في عين مريضتي كنّت أرغب بأن أقتله، واستمع  إلي التمتمة، وهي ترجو الله أن ينقذها،وأري العرق يتصبب منها، وأقدامها تتخبط من الهلع، أكاد أجزم أن الخوف أقوي من المرض، ولكنني أعلم أنه حرب الإنسان وحده، فالخوف هو التخلي عن الأنماط المعقولة اما نخضع له او نتصدي له ..ولكن لا يمكننا التآلف معه بأي حال،،،
وأظن أن نفسي قوية كفاية، حتي يصطفيها الله بكل هذا، وعسي أن تكرهوا وعسي أن تحبوا.. و حتي نصل الي الفردوس الحقيقة، علينا الصبر قليلًا، ولمثل هذا فليعمل العاملون..
أظن أن الحاج سعيد رآها قبلنا..، 







Share To: