ليس من السهل على الكاتب جسر الهوة بين ضفتي الكتابة، ليعبر من خلالها في يسر، من النقد إلى الإبداع، لما للعملية من مشاق في تفاعلية كيمياء اللغة والخيال، إذ عادة ما تخلق الارتجاعات النقدية بصرامة لغتها وحذق تفتيشها في أغوار المعاني والمباني الفنية والفكرية للنص، في لاوعي الناقد/المبدع، مصاعب في مسرى تداعيه لرهف القول وليونة الحكي وفن تخليق العالم بذات القلم بذات الوعي والألم لكن بغير ذات الخطاب، فيجد نفسه واقع في محك اللغة بوجهي عملتها المتكاملتين المتتابعتين لكنهما في الوقت عينه مختلفتين.
هكذا بدا لنا الناقد والمفكر الجزائري الأستاذ عبد الحفيظ بن جلولي من خلال تجربته الروائية الوحيدة الحاملة لعنوان (وعلى الرمل تبكي الرياح) استنطق من خلالها زاوية مكانية متفردة لأدب الصحراء في مجالها الحضري لا البدوي، ذلك الأدب الذي لا يزال فضاؤه عصيا على الغزو النقدي بل أكاد أجزم الغزو القرائي حتى، في مجتمع لا يشق عليه من سبل الحياة قدر سبيل تقفي أثر المعرفة!  

لنتفق في البدء على أن المتلقي يتحول إلى شريك في ملكوت النص حالما ينتهي رسم عوالمه الجميلة من خيال الكاتب، ويستوي على عود سياقه مكتمل المعنى متكامل المبنى فنا وخطابا، ليتم فيما بعد الاشتغال عليه في مسار تلقي واستيعاب عوالمه بكثير من الخصوصية الإدراكية والتذوقية التي تتعدد وتتعدى حدود ما هو محض لغة لتغدو تقابلا مخياليا بين شريكي النص الكاتب والمبدع، وإلا غدا الخطاب الادبي مجرد نص خبري، يستوى في سياق تذوقه والتفاعل مع علاماته الكل سواء القارئ باللغة وقارئ للغة، فالنص، عكس ولادته أي كتابته، يظل سيرورة لا متناهية قراءة بوصفه سؤالا جماليا للتاريخ عبر صور حدثية تمتد في فلك المعرفة، وما النصوص التي كتبت منذ قرون ولا زالت خاضعة للاشتغال العقلي نقدا وتحليلا وتفكيكا وفق المستجد في أدوات المعرفة لخير ما يمكن أن يدلل على ذلك.

وإذا كان مفهوم اللغة لدى الألسنين والمشتغلين على فلسفتها، يتجاوز المدى المفهومي العمومي الرائج من كونها مجرد أداة تواصل إلى الإقرار بأنها بمية تواصل تسقيم فيها خصوصيات الذات وتتألق عبر الانساق، فإنها من باب أولى أن تغدو كذلك في نطاق الخطاب الأدبي المفعم بالعلامات والرموز وهو يستنطق الفكر والجمال وينحت من صمم الأزمة وخرس المكنة سيمفونية الخيال، فاللغة أدبا تغدو تأسيسا في عالم رمزي حافل بإشارات وعلامات الأشياء تسبح في فضاء زماني ومكاني ذي خصوصية.

من هنا يمكن الاستنتاج أن محورية المكان وحيوية عنصره في العمل الروائي لا تقف عند حدود كون وجوده شرطا عضويا ومنطقيا في مبنى النص بوصفه مسرح الأحداث، بل هو عنصر حكي قائم بذاته من خلال صور قسماته الصامتة والضاجة بالحركة والسكون وسابحة بثباتها المادي والتعبير في نهز الزمن، تعبر عن فلسفة وجود وبقاء في أبعادهما التصارعية في دوامة التاريخ سياسيا واقتصاديا وأنثروبولوجيا، وهذا ما ينكشف في تقابل مكاني رهيب وحوارية بديعة بين مكان الذاكرة وذاكرة المكان، أي على مستويين من الأمكنة الحاضر - القديم (القصر القديم) ومكان الهجرة من جهة والقديم الحاضر أي لحظة العودة من جهة أخرى.
ففي رواية "وعلى الرمل تبكي الرياح للكاتب عبد الحفيظ بن جلولي، يتجلى ذكاء الاختيار المكاني، كمركز لمساءلة فنية تاريخية بشأن المتحول السوسيولوجي، عبر خليط كيميائي من مستويات اللغة لفرط غرائبيته في نسق النص الحدثي والوصفي معا، ولتداخل أشيائه وقسماته بين مراحل زمنية مُتمعلِمة ومعولمة "كان كل شيء يعلن جنازة القصر، بدءً من الهدم إلى فقدان عبق الأكلات القصراوية المُتَوْبلة، التي تغمر الفضاء متسرّبة في حركتها الأفعوانية على وقع انغام برنامج السيّدة سامية "البيت السّعيد"، مخترقة حتى الشم الذي فقد حاسته، تتلوّى البطون، تمتط وتنكمش، رائحة حريرة بـ "الْفْلاَوَلْ"، مرق مطهي بالقديد، "مْخَلَّع" بالقدّيد يزحف فوق تشاهي الطّوى، ورائحة شعير منخول بين أياد تتراقص مردّدة مواويل "ألحوفي" الشعبية.." أشياء مكانية منتقاة بدقة وإبداع، وكانت ستبوح بشكل أكثر تألقا وتناغما وتفاعل في كيمياء النص، فيما لو نأت عن التوصيف تركت لتبوح بأشياء المكان تلك بنفسها عبر حياد افتراضي للكاتب في لعبة القص وانسياب النص !

إن اللغة في العمل الروائي لتغدو أكثر ألقا وأوسع دلالة في النسج السردي حين تنصرم من اقتيادات الكاتب الواعية وتغدو ثمرة غواية بينه وبين صور الخيال العارية في الزمان والمكان، وفي رواية (وعلى الرمل تبكي الرياح) استطاع الكاتب عبد الحفيظ بن جلولي أن يؤطر المتلقي داخل فضاء مكاني بديع تتقاطع صوره في الأزمنة من خلال ارتجاعات طارئة للذاكرة حيث الماضي يتفاعل بأحداثه معطيا معنى للمُحدث المكاني محل الحكي في الرواية، ولربما كان سيغدو عنصرا فاعلا في خلق توازن سردي فيما لو اطلق العنان لأشياء المكان كي تعبر عن نفسها بخصوصيتها الجمالية.. " أصبحت الدروب؛ "اولاد العيساوي" "اولاد بودّي" "اولاد الحيرش" بلا نكهة، بلا أنفاس تنظم عقد البيوتات المنفرط، الأبواب الخشبية القصيرة المكتنزة أصالة، تاهت عن رعش الطَّرق البهيج بالجيرة ولحظات الفضفضة النّسوية المتوجّسة، الهاربة عند أول سعلة مفتعلة تُجتث عنوة من أعماق الصدر تعلن مرور الرَجَّالَه (الرّجال) ..   
أوشك أن ينسى وجهته، خاف أن يسرقه الوقت، فأسرع الخطى نحو محلّ الحلاقة القديم..
دفع برفق باب الألومنيوم، عصر النّجارة الحديدية فتح أصقاع القصر النائية، انزلقت رجلاه إلى بطن المحل.." ثلاثة دروب، أسماء لمسميات بل عوالم بهية تعطي للمكان كثافة في معنى وجوده عبر مراحل زمنية تختزنها الذاكرة، كـ"الفضفضة النسوية المتوجسة.." التي هي وحدها ملمح مكاني كان بوسعه أن يكون قسما حكائيا يضفي على النص بعدا آخر في الرؤية والروي.
فالمكان في سياق نص الرواية، بوصفه أيقونة المعنى في مدار الحكي، فرض لغته بدلائل خصوصيته الشيئية، لذا وُجد الكاتب عبر رحلة السرد كلها مدفوعا لاستعمال كل الوسائل الإيضاحية التي تبقي على القارئ داخل الإطار النصي، فوضع بعضها بين هلالين أو حلاقتين، وألزم البعض الآخر بمرادف مشترك فصيح يستوعبه القارئ، ربما كانت غيرية المكان واستثنائيته لدى خالد التي هي مبعث الحنين قد تجلت في ذلك التقابل العجيب في الذاكرة بين مكان الهجرة الكبير الذي هو باريس وجزء من مكان الذي هو القصير العتيق بالمدينة. 

رواية (وعلى الرمل تبكي الرياح للكاتب الجزائري عبد الحفيظ بن جلولي، تحفة قُدت من كتلة خيال بديع جُمع فيه التجريب والتجريد، فاستقام متنها المتماسك وسحرها المكاني المضبوط بإحكام غرائبية حكي يتحدى نطاق دلالات اللغة التواصلية أو التوصيلية، بل إن المكان في هذا العمل الجميل كان لغة بذاتها مستنطقة بأشيائها الأزمنة التي تراصت في ذاكرة ووقع الحدث المروى، لغة حدت بعض الشيء من مفعولها الاستغراق الوصفي الحرفي الذي توخى من خلاله الكاتب إيضاح معالم الخصوصية المكانية بوصفها كما أشرنا مدار الاستخيال ومحور العمل، وذلك سواء في الملمح المكاني أو في تسميات فصوله، في حين تفرض جمالية فن الحكي ترك الأشياء تكشف عن هويتها من داخل موضوعات النص ذاته، بالإشارات والإيحاء الحكائي أي أخارج اقتيادات ظاهر اللغة.
خلاصة، تبرز التجربة الروائية الأولى للكاتب والناقد المميز عبد الحفيظ بن جلولي من خلال عمله المميز (وعلى الرمل تبكي الرياح)، كعلامة مضيئة في الحقل السردي لأدب الصحراء الحبل بأسئلة الوجود، المفعم بفلسفة المكان، بفعل تقاطع عوالم شتى بفضائه الفسيح، الأسطورة، التاريخ، وصدى الإنسانية الأولى.








Share To: