التمييز بين مقامات تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم (2):
ويجب التمييز بين ما صدر منه باعتباره مبلغا مشرعا، وبين ما صدر منه صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيا للأمة، يقضي بعد النظر في الأدلة والحجج والبراهين.
ومثال ذلك:
ما أخرجه الشيخان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ:
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا»، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا".
والمقصود بالقضاء بكتاب الله هنا، أي بالقضاء بالوحيين مصدر التشريع.
والعسيف هو الأجير، وجمعه عسفاء، كأجير وأجراء، وفقيه وفقهاء.
وكذلك التمييز بين ما صدر منه باعتباره مبلغا مشرعا، وبين ما صدر منه على سبيل الجبلة والطبيعة البشرية، وهو في ذلك ليس مشرعا، والتأسي به في ذلك يكون تبركا بالتأسي به دون إلزام، ويثاب فاعله، لكن لا يلزم بذلك غيره.
وذلك مثل طعامه، وشرابه، ونومه، الذي ليس فيه سنن قولية، مثل حبه الدباء، والذراع من الشاة.
أخرج الشيخان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:
فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا وَمَرَقًا، فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ القَصْعَةِ»
قَالَ: «فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ».
كذلك يجب التمييز بين ما صدر منه باعتباره مبلغا مشرعا، وما صدر منه على سبيل عادة قومه، فهذا ليس تشريعا، والتأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك يكون تبركا بالتشبه به، ويثاب فاعله على هذه النية، لكن لا يلزم غيره بذلك، فهذا ليس داخلا في التشريع.
ومثال ذلك :
عدم أكله صلى الله عليه وسلم لحم الضب؛ فإنه لم يأكله لأنه ليس من طعام قومه، ولم يعتد أكله .
أخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ».
وأخرج مسلم في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما :
أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ سَعْدٌ، وَأُتُوا بِلَحْمِ ضَبٍّ، فَنَادَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي».
ويدخل في ذلك أيضا ما فعله بجكم الحاجة لظروف معينة، وليس على سبيل القربة.
ومثال ذلك :
ما أخرجه أبو داود بسند حسن، عن أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ:
«كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ».
فلا نقول إن من السنة أن يتخذ كل مسلم لنفسه قدحا من عيدان، ويجعله تحت سريره ليبول فيه بالليل!
إذ إن هذا ليس من باب السنة التشريعية في شيء.
Post A Comment: