كانت التراتيل قد تلاشت مع تمدد مسافة الهامش، وانضم صمت المدينة إلى صمت المقبرة تحت كعب نعله الجلدي السميك، فانتهت العوالم في داخله، إلا عالم الزهرة الموعودة، كان قد اعتاد على مغالبة ضميره كل الجمعة بالقول أنه لا يختطفها بل يقتطفها من الرخام ويهديها إياها السبت.

لكن لماذا شعر هذه المرة بذلك الفراغ الغريب الذي ملأ نفسه في الجمعة العاشرة من تاريخ الزهور الذي دخل فلكه فجأة؟ هل خشي أن لا تكمل زهرة جمعته اليوم ربطة الباقة التي حدثته بها؟ المسكين ليست له ثقافة الزهور فكيف يعرف كم زهرة تكوِّن باقة؟ كان يجيد ربط النعناع الذي قضى صباه في بيعه على أبواب الأسواق العتيقة، لكنه لم يكشف لها يوما عن هذا ولا عن جهله بهذا النوع من ثقافة ربط الزهور، كان يستمتع بلقائها كل سبت على مقهى بأعلى الهضبة، وهو يراها تشتم الزهرة وتقسم له أنها بجمالها وشكلها، غريبة المنبت وأنها ليست بالمرة من هاته الأرض !

كل الأراضي تزهر ولكل زهور الأرض أشواك وورق مزهو باللون، فكيف يمكن معرفة منبت الزهر؟ سألها هذا السؤال ذات مرة ففجأته بجواب لم يتوقعه؟ 

- صحيح لكن الزهور كالإنسان، هل رأيت منا أشقرا بطول وزرقة عيون سويدي؟

- لا نحن بلون هاته الأرض، بسمرة أرضها ولون شمسها وعطر طينها العطشان..

- فكذلك الزهور حبيبي !

 ليس يهتم بمثل هكذا أشياء مذ عرفها عاشقة للزهور عارفة بأصولها أقسم أن يجمع لها بالتقسيط باقة تجعلها على شرفة البيت بمزهرية مشعة على الحي.

توقف وسط الفراغ الكبير، كانت القبور قد تساوت واستوت في نظره مع الأرض، وصاحب الكاديلاك الفارهة لم يطرز بعد كعادته منتصف نهار كل جمعة، بأثر عجلاتها تراب باحة المقبرة قادما من طريق المطار يعض بشفتيه على ساق زهرة مشعة وهو يعيد ترتيب هندامه وتسريحة شعر أمام زجاج سيارته المطلي بالسواد، فاحس بيد تخرج من المجهول وتطوق قفاه، تدفع به إلى فوهة صندوق من الاسلاك والزجاج المسلح داخل سيارة كبيرة، ولأول مرة سمع ترتيل الجمعة داخل صندوق السيارة، ألقى بنظرة في معصم من كان يمسك برقبته حتى كاد يخنقه، وراح يقرأ توقيت اختطافه وهاله الى جانب التوقيت اليوم "الجمعة" صار يجتهد ويكابد كي يميز الرقم الذي يلي الواحد من عدد أيام الشهر، اختلط عليه الحساب، لم يكون بوسعه أن يسأل المختطفين وهو في سيارتهم تعلوا زغاريدها طرق المدينة العائمة في سكونها وسكوتها كمن نحن في الشهر اليوم؟ طبعا ستكون وقاحة منه أن يسألهم كم في ربطة الزهور من زهرة حسب تقاليد باريس أو لندن..

نظر إليه المحقق داخل المكتب الصغير بعيون يقدح منها الشرر، بدأ بتحسس جسده، الترتيل جثمت على الصمت والسكون بحواري وشوارع المدينة، وصارت تغزوه في كامل كيانه، هل هو في عالم الحضور أو الغياب؟

- كيف تجرؤ على سرقة الموتى يا فتى؟

أدرك أن أمره قد اكتشف ولم يعد ثمة من داع للتستر، سال عرق بارد من جبينه، ومع ذلك حاول الالتفاف حول التحقيق ومجادلة المحقق بالمنطق:

- سيدي الموتى لا يشمون ولا يرون فلم نتكلف ازاءهم كل هذا التكلف..

ضرب المحقق طاولة التحقيق:

- الانسان يظل انسانا حتى لو مات وخرجت روحه، هيا اعترف كم مرة فعلتها ولمن كنت تحملها؟

لقيها فرصة لطرح السؤال الذي استحال طرحه في أثناء اقتياده بالسيارة إلى المخفر القصي بالمدينة، فسأل:

- سيدي المحقق سأجيبك، لكن قبلها أود أن أسألك ولكن أرجو أن لا تغضب مني أو تنفعل

- هات ما عندك؟

- كم من زهرة تضمها الباقة المهداة إلى الحبيبة؟

قيل أنهم لا يزالون لليوم الرابع ينتظرون استفاقته من أثر كف عفريت كانت قد استقرت بقوة زلزالية على قفاه من هول السؤال، كيف يسأل عن الزهور المهداة للعشيقات في مراكز التحقيق، وعن ربطاتها حسب المذاهب الزهرية في باريس ولندن..

في الصباح السبت انتظرته بالمقهى بأعلى الهضبة الصحراوية المحفوفة بالنخيل وبعض ورود قرن الغزال المعزولة، اقتنت الجريدة لتملأ الفراغ في الوقت الذي خلفه تأخره غير المسبوق عن الموعد، بالادعاء قراءتها، وأحيانا تهش بها على الذباب، وبحركة خاطفة نزعت عنها النظارة السوداء لتقرأ تحت صورته "القاء القبض على نابش لعشرة قبور وسارق الجثة العاشرة أمس جمعة"

 حملت هاتفها المحمول وارتطمت ركبتها بصحن الطاولة فاندلقت القهوة السوداء المرة على ورقة المائة دينار ثمن الفنجان، اشارت للنادل وهو يحمل الورقة النقدية ويرفلها من سيل القهوة، بالاحتفاظ ببقية الصرف، أسرعت إلى بالكون بعدما اندفعت إلي داخل بيتهم، رمقت في الأسفل الطريق ثم دفعت المزهرية الفخارية ذات الزخارف الصينية بقوة إلى الاسفل فداست عربة نقل عساكر كانت مسرعة للمساهمة في إطفاء حريق نشب بالواحة زهورها التسع! 

 

بشير عمري

قاص جزائري








Share To: