التصدير:" إن أعادوا لك المقاهي القديمة فمن يعيدُ لك الرفاق" محمود درويش.
مساءَ اليوم بعدَ صلاة العصر قادتني قَدمايَ بالتّوافُقِ مع روحي إلى مقهى قديمٍ لم أَرْتَدْهُ منذ خمسة عشر عاما أو أكثرَ
...كنتُ في الطّريقِ أُسائلُ روحي و روحي لا تُجيبُ...أُسائلُها :
" كيف سأجِدُ المقهى؟ هل تغيَّرَ ؟ هل ما زالَ يَفتحُ على شارعين ؟ هل ستذكُرُني الجُدرانُ ؟ هل ستُرحِّبُ بي أصواتُ الغائبين ؟ و هل ..؟ و هل..؟ و ما أمَرَّ هذه الاستفهامات التي يَحارُ لها و فيها الجَوابُ !!!
وصلتُ بعد بِضع دقائق إلى مقهى "الجمهوريّة" الذي يُعرَف أيضا باُسم صاحبِه " السّاسي الفافي "...تلَبَّسَ المكانُ باُسم صاحبِه فصارا شيئا واحدا ...دَلفتُ دونَ اُستئذان لا مِن التّاريخ و لا مِن أرْواح الأحبّاء الغادِرين أو المُغادرين أو الباقين على قَيْدِ الحُبّ و الحَياة...دَخلْتُ...وجدْتُ "الكونتوار"
العالي و لم أجِدْ "السّاسي الفافي" ..وجدتُ هندسةَ المكانِ الضَيّقة و لم أجِدْ الرّفاق..لم أجد الوُجوه القديمة..لم أجدْ الطّاولات الحديديّة الزّرقاء التي تَقشَّرَ طِلاؤُها...لكن وجدتُ المهمّ و الأهمَّ...وجدتُ "الحبيب الجبالي "يَتَرنَّمُ من الفونغراف العتيق " و الله ما كادُوني سِتّين دَرْجة في العَلا ما كادوني...
يا لالْ..يا لالالالْ...و الله ما كادوني...ما كادني كانْ الكلامْ الدّوني (2)".
اِتّخذتُ مكاني القديمَ بين الباب الأزرق العتيق و "الكونتوار"
..طلبتُ نرجيلة و شايا أخضرَ.و شرعتُ أتحدّثُ مع حبيبتي بنهم و شوق مُستعينا بِمَبسَم بلاستيكيّ. ثمّ بحركة عفويّة خلعتُ المَبسَم و قذفتُه بعيدا..بعيدا..في جيبي فلا أريدُ واسطة مع مَن أُحبّ سواء كان إلها عظيما أو حبيبا رحيما.
شرعتُ أسحبُ أنفاسا عميقة مِن رَحِمِ التّاريخ مُصغيا إلى صوت حبيبتي و هي تُقرقِرُ طروبا بصوت "الحبيب الجبالي"
و هو يترنَّمُ بقصيدة عامّية هاربة من المعلّقات الفصيحة.
اِنتشيتُ بأنفاس النرجيلة العطرة و بأرواح الرّفاق الّتي تحومُ حولي مُتراقصة جَذلَة مُترنّحة...أغمضت عينيّ ثمّ تركتهما مفتوحتين قليلا..فقط لرؤية ألوان الطّيف الشمسيّ.....كان "السّاسي الفافي" يتهادى بشاشيّته القرمزيّةو بجبّته الخمريّة و بِخدّيه المُوَرَّدَيْنِ مثل رمّانتين وقتَ القِطافِ و بقامته المديدة و بصوته الأجَشّ يُشرِفُ على تسييرِالمقهى كتكنوقراطيّ حقيقيّ
في الحقيقة أغلبُ الزّبائن المُقيمين يخدمون أنفسَهم أمّا العابرون فكانَ يخدِمُهم "نجيب" بقميصه البُرتقاليّ المشقوقِ قليلا عند النُحْرِ الّذي يُظهِرُ قلادة ذهبيّة عريضة لا تُفارِقُ صدرَه المُفرطَح أو "التّهامي" بهدوئه الغريب و شاربِه الكثّ العجيب أو "الباكستانيّ" بسِحنتِه السّمراء و ضِحكته الوديعة مثل طِفل و بِجسَده المَسنون مثل سيف أو " محمّد بوزرّيعة"
بِمِظلّته العريضة الّتي لا تُخفي الجراح و بضفيرةِ الخيوط السّوداء و الصّفراء الّتي عَصَبَها حول جبينه في حُبّ حقيقيّ
و أبديّ لنادي أولمبيك مدنين...أو "محمّد الميداني" الّذي عرِف بشهرته " بَرْق" و بِوَجنتيه البارزتين و قامته الرّبعة و جسده الممتلِئ و شاربِه الخفيف و برقبته القصيرة و ابتسامته الدائمة ...كانت ميزته الفريدة أنّ لا أحَدَ يستطيعُ أن يُحدّدَ له عُمرا. فمنذ عرفناه كان في الأربعين و لم يُغادرها إلى أن غادرنا رحمه الله...كان "برق" كثيرَ الانتشاء و إذا اُنتشى يَجودُ علينا بلوحات راقصة بديعة يُطاوِعُه جسد خُلق للرّقص و روح فُطِرتْ على البسمة....أراه الآن في حفلة عرس راقصا فوق صفيحة برميل قُلِبَ على وجهه فصارت صفيحة ظهره فضاء يتهادى عليه الفتى " برق" ...يحيا السّرد..يحيا البرميل...يحيا فتى الفِتيان " برق".
كُنّا ننتظِرُ من " السّاسي الفافي" مُلَحَهُ و تعليقاته البذيئة
و الطّريفة...كُنّا نُشاكسُه باُحترام لِيقذِفَ في وجوهنا بعض الجُمل الرنّانة الّتي تُضحِكنا و تجعلُنا نضحك من أنفسنا...يُلقيها في وُجوهنا مُرتجِلا فنسهرُ جَرّاها و أكتبُ عنها و نختَصمُ .
هاقد وصل الآن الرّفيق " رأفت " بسرواله القصير الّذي قُدَّ من سروال "جينز" أمريكيّ كان يرتديه أحد رجال الأعمال في
"أمريكا" حبيبته اللّدودة...وصلَ " رأفت " مُعتمِرا قُبَّعة " تشي
غيفارا " بنجمتها الفضّية....كان يشتغل في صيف " مدنين " القاتل في حظائر البناء و يُوزّع ما يقبضُه من مال بين مساعدة عائلته الفقيرة و شراء السّجائر الرّخيصة و الكتب الثّمينة....نعم كان مُدمنا على القراءة مثلما صار مُدمنا بعد ذلك على التّدخين....نعم في هذه الفترة كُنّا نُقدّم له دروسا خُصوصيّة في كيفيّة تدخين السّجائر حتّى يمتلئ بها صَدرُه ثمّ يقذِف الدُخان دفعة واحدة في وجه الفضاء أو في وجه التّاريخ ..." رأفت " هذا أصبح قياديّا في أحد الأحزاب و هو حزب قام ببعض المُراجعات الطّفيفة فَحذَف ثُلُثَ اُسمه أمّا
القيادات " فبقيت هي..هي..و القلوب تغيّرت..و إلّي راحْ من العمر راااح و إحنا مَلّينا الرجوع !!!"
الآن وصل صديقي "صفوان " و اُسمه الحرَكيّ " صوصو"
و هو صديق حَميم خيرُهُ عميم أحبّته نِصف فتيات المدينة -على حدّ قوله- و أحبَّ نصفها الآخر على حَدّ قولي..و " صوصو" هذا صديق وفيّ بهيّ يُحبّ السّمَك كثيرا ما إن تلتقيه في أيّ زمان أو مكان حتّى ينفَجِرَ في وجهك "وِينَكْ يا خايِبْ هاهي الحوتَهْ."(3) ..لكنّنا نُحبُّه كثيرا و أحبّه أكثرَ لأنّ في قلبِه وفاء لا يعرفه إلّا الرّاسخون في الحُبّ.
أخيرا..اِلتحق بنا "باسم" بشعره الأشقر المُجعّد قليلا و بِبَشرته البيضاء الّتي تَجنَحُ نحو الاصفرار و بِجسدِه الرّياضيّ ."باسم"
هذا لم أره منذ فترة طويلة و يقولُ أغلبُ المؤرّخين أنّه اُنسحَبَ من لقاءاتهم ..ربّما تفرّغ لرياضة الملاكمة الأمريكيّة الّتي برَع فيها حتّى صارَ بطلا وطنيّا أو يُخصّص أغلب أوقاته كعادته للمطالعة و لأشياء أخرى.
كانت جلسة رائقة لم.أعهدها منذ سنوات....فتحتُ عينيّ قليلا مُصغيا إلى قرقرة النّرجيلة باُنتباه أكثرَ فأبصرتُ تعاضديّة " الطيّب بن سعيد" و هي مغازة حقائب و أواني منزليّة حديديّة و بلاستيكيّة ...ذهب التّعاضُدُ لكنّ الاسمَ بقِيَ عالقا بها ربّما في شكل "نوستالجيا" (4)إلى اُشتراكيّة فِطريّة ...فجأة أمام هذه التعاضديّة اُنتصبَ جَسَدٌ ما لاُمرأة عابرة للقارّات..عرفتُها مِن قَفاها و مِن تضاريس جَسدها الفتّان
و مِن تَناسُق الثّياب و الألوان و من رَهبة في حضورها أبكَمت المكان و الزّمان...تابعتُها مُتذكّرا مُتدبّرا ..مضت إلى سوق الخُضر القديم فتطاولتُ بعنُقي كي أُطِلَّ عليَّ ...وقفت أمام بائع السّمك فاُشترت سمكا ثمّ عاجت على بَسْطة فاُشترت تمرا...ثمّ مضت إلى أخرى فاُشترت زيتَ زيتون و عُنقودَ تين مُجفَّف كأنّه مِسْبَحة لأقوام من العماليق...و هنا اُنفجرتُ ضاحكا...أتعرفون ما يضحكني؟؟..نعم...فمنذ ثلاثين حولا اُشتكت لي من آلام البواسير فوصفتُ لها التّينَ الشوكيّ..
عفوا...التّين المُجفّف و زيت الزّيتون أكلا على الرّيق لا تضميدا...ضحكتُ كثيرا حتّى صحتُ:" آآآه يا إَسْتَ حبيبي الذّبيح في وطني العربيّ الجريح.!!!
بعد دقائق عادت من السّوق فاُنزويت في مكاني و أطبقتُ ضِفَّةَ الباب اليمنى و ظللتُ أتابعها..كانت شاردة ساهمة...
أتراها تفكّر فيّ بعد رحيل رببعها لا رببعي؟؟..ليتها تدري أنّني فقط على بعد خمسة أمتار و خمسة و خمسين صنتيمترا من شحمة أذنهت اليمنى...بطريقة عفويّة رفعت يدي و جعلتها تَتخلَّلُ شعري الكستنائيّ الكثيف...اِنتبهتُ إلى "الحبيب
الجبالي" و قد بلغ المقطع الموالي " شَيِّعْ شيّع..شيّعتهٌم بالعَين شيّعْ شيّع...الفَمْ ساكِتْ و الدّموعْ تْفيّعْ ".(5)..أمطرت دموع كثيرة في قلبي : دَمع قديم يتيم ثمّ تجمّعت في المآقي و سالت مثل السّواقي...مُتجمّعة عند زوايا الشّفتين ثمّ شرعت تنزلُ على أرض البلاط مُحدثة صوتا خافتا...طَقْ..طقْ...طقْ..وسط
ذهول الحاضرين...داعبتُ قلبي و قلتُ له:" لا تحزنْ..إنّ الله
و الشّعر و نادي برشلونة و تشي غيفارا معنا" ثمّ كفكفتُ
دمعي ..و أخيرا...ياله مِن نور قذفه الرّحمان في صدري...
وقفتُ و قد تلبَّستني روح " برق" ..نزعتُ سُترَتي السوداء
و قذفتُها على الكرسيّ...و مضيتُ بخطوات وئيدَة نحو الفونغراف العتيق الّذي مازال يَصدحُ بصوت " الحبيب الجبالي" ..أفردتُ يديَّ و عقدتُ رُسغَيَّ و جعلتُ خصري يدورُ
و يدورُ مُحرّكا قدميّ برِفق و حنان و أمان واقفا على الأخمصَين و أحيانا أُوازي بين ذراعَيَّ المُتأرجحين نحو اليسار أو اليمين...كان.الحاضرون ذاهلين حتّى أنّهم فغَروا أفواههم دفعة واحدة...شرعوا يُصفّقون و أنا أتهادى
و أعضائي تتنادى مُنتقِمة من رِبْقَةِ التّاريخ و لعنة الجغرافيا
..تَسرّبَ الطرَبُ إلى "الحبيب الجبالي" في الفونغراف فشرع
يُعيدُ هذا المقطع و يعيد..و يعيد...وسط دهشة الحاضرين إلى أن.أيقظتني زوجتي من النّوم....أوووف كمْ كان حُلما راقصا رائعا !!! شكرا لكم أيّها المستيقظون الرائعون...شكرا لكنّ أيّتها المستيقظات الرائعات...محبّاتي لكم و لكنّ....انتهى القصّ.
*سعيد بوالشنب*
مدنين/تونس
*الهوامش
-1 السّاسي الفافي (2017-1929) أحد أقدم أصحاب المقاهي في "مدنين" عرف بنوادره.
-2 هذه أغنية شهيرة للحبيب الجبالي مفادُها أنّ العاشق استطاع تخطّي العراقيل لكنّه لم يجدْ حلّا لكلام العُذّالِ.
-3 هذه الجملة تدلّ على كرم صاحبها و رغبته في استضافة أصدقائه.
-|4 هذه كلمة ذات أصل يونانيّ تفيد الحنين إلى الماضي.
-5 هذا مقطع من نفس الأغنية مفاده أنّ العاشق تابع رحيل الأحبّة صامت اللّسان دامع العين.
Post A Comment: