تظل الشمس هناك، مترهلة بوقر آلاف السنين، وإذ تنفث قيظها المكتوم، أتسلق أول حافلة صادفتني، نعم، هي مهترئة الأرضية ،عتيقة، ومكتنزة كعلبة سجائر رخيصة ،لكنها سوف تحميني من نفثات الحر اللافح على أية حال .!
ولأن المقاعد الكسيحة المتناثرة لم تكن شاغرة، فقد اضطررت كارهة لأنتصب في إحدى تلك الثغرات القليلة التي لم تطأها قدم، مددت يدي لأمسك المقبض حتى أتحاشى الارتطام وربما الزلل عند الارتجاج المتوالي الناتج عن ضعف الفرامل، لكن الذراع الطويلة أمامي ظلت تهرس أنفي بشدة، وسرعان ما بدأت عينان تسحان دمعا، فرائحة العرق الكريهة كادت تفتك بشراييني حتى ظننت أن لا علم لذلك الرجل النتن بمادة تسمى صابونا، قاومت الإغماء بشدة لأنسل ذابلة أجرر أمراط المهانة.
ذوقي، أبدا كان يمج الحافلة، كنت أراها بسيرها الوئيد ومنظرها المتشقق، دورقه لسلحفاة عاقر، ولأن بيتنا كان يقع في طرف المدينة بينما تنتصب الكلية في الطرف الآخر، حاولت عبثا أن أقلد أرباب المحافظ المكتنزة بأن أستقيل سيارة أجرة يوميا وعلى مدار الأسبوع، لكن العداد المعطل كان يتكلف كل يوم بابتزازي أربعين درهما في أحسن الأحوال.
نهرني والدي ذات صباح وهو يرمق شزرا فاتورة الهاتف والكهرباء وتأمين السيارة، وأمرني أن أجرب الحافلة لأنها أقل تكلفة، لذلك أجهد الآن أن أكفكف دمعي وأنا أنتقل قرب إحدى السيدات ذوات الأرداف الناتئة والتي تشرع في التثاؤب فاغرة فاها كسحلية هرمة، فم المرأة كان يتسع حتى خلت أنها سوف تلتهمني، وإذ تبدأ في التجشؤ تنضح غازات بطنها رائحة ثوم صاعق يعصف بكياني – كم تعذلني أمي دائما عن تقززي المفرط تجاه الروائح، ولكني أجزم أنها لو عاينت موقفي هذا فسوف تنصحني حتما باستعمال كمامة أو عبوة أكسجين لتجديد الهواء – ولكن ما لبث أن خطرت لي فكرة استوحيتها من إحدى الإشهارات لتلك المتجشئة المفعمة أمعاؤها ثوما علها تغير نكهتها، وأنا أتمثل قول الممثل في الإشهار ( مع كلوريتس خد راحتك في الكلام)، لكن البدينة ظنت العلك ضربا من الحلويات لتحجم عن أخذها –وهي تتجشأ- لأنها تعاني من السكري ،شزرتها بحنق بينما كانت النافذة مجللة بغلالة كثيفة من النفس المضغوطة، وإذ لم أتبين أي مكان أدركناه سحبت منديلي وأحدثت كوة على خذ النافذة لأكتشف أنه ما زال أمامي ربع ساعة أخرى من المكابدة حتى أدرك البيت.
إنفتح الباب فجأة ،نزل بعض الركاب لاهثين كما لو أنهم خرجوا من سباق خاسر، لتصعد بعض النسوة المتشحات يحملن سلالا زاخرة بالخضروات، تذكرت أن الإثنين هو يوم السوق الأسبوعي، غصت الحافلة بأصوات الديكة وعبق النعناع، تألم رجل خدشنه حزمة (خرشوف) بينما انهمكت المتبضعات في ترديد أثمان الخضر واللحوم.
المراقب بنظرته المتعالية يخترق الأجساد المكدسة، يفحص التذاكر، على خده ارتسمت قبلة نسائية بأحمر الشفاه، الركاب يتغامزون، يبتسمون، بعضهم يقهقه، المراقب يجهد أن يحافظ على علائم إنسان مهذب، يقبض على صبي لم يتجاوز السابعة ـ على ما حدست-الصبي لا يملك ثمن التذكرة، المراقب ذو القبلة المرسومة يتوعده، يصفعه، لكن أحد الركاب يمرق من بين الصفوف والضحك يعلو شدقيه، يدفع ثمن التذكرة المضاعفة للصبي، يلمز المراقب! "... كلنا نغلط، الكبار ينسون حتى غسل وجوههم أحيانا...!"
تقف الحافلة مرة أخرى، ينزل المراقب بصلف، وما إن تتحرك حتى يطل الصبي من النافذة ويصيح: " بالصحة آسي المراقب" ،يلتفت هذا العاشق يمنة ويسرة، لكن كل الواقفين غصوا في قهقهات متتالية حتى اعتلته حمرة غطت اللثمة على خده.
قلبي كان ينبض بشدة، أحسست كمن أغلق عليها في قدر حساء، بعض الأعين الوقحة كانت تحدق بي، اعتراني حرج بالغ، لكن الأحداق ظلت تتأملني، وإذ رفعت بسرعة رأسي في شموخ، أدركت أن أحد أزرار قميصي كان مفتوحا، أغلقته بسرعة والخجل يعصف بي، لكن صوت إيقاع بدأ ينبعث فجأة من أحد أركان الحافلة، استدرت حتى أتحقق من الأمر، وهالني منظر شحاذين رثي الهيئة، أحدهما بأسنانه الاصطناعية العفنة التي اعتلتها صفرة أقدم منها، بدأ يسعل يجوس الراكبين بنظرة، يضبط أوتار الكمان الأحدب، القصير المكتنز بجانبه يدندن، يمسح وجه الدف، لا يدري لماذا تذكرت "التروبادور" لأغوص في ضحك أخرس، لكن هؤلاء كانوا يستجدون النبلاء، و أولئك يسألون من هم أشد منهم إذقاعا، تبدأ سيمفونية النشاز :"أمولات العيون الكبار أمولات الساق المبروم، أمولات .... كوليليآش سماك الله؟كوليلي..."
وفي لحظة بعينها اتقدت عيون الراكبين كبعض الأغوال البائدة، وبدأ الذكور يجوسون الإناث، كل منهم يبحث عمن توفرت فيها تلك السمات ، في تلك اللحظة فقط أدركت إلى أي حد تفعم الموسيقى بعض الأحاسيس الغافية ، توقفت الجوقة وصيحات الإعجاب تتوالى، لكن ذا الأسنان الاصطناعية بخبرته، سارع إلى جمع ثمن الوصلة وإن كان هزيلا، فيكفي هؤلاء أن يعترف الآخرون بعبقريتهم !!! .
إحدى الواقفات بعينيها المغرورقتين كشحرور، سحنتها الكئيبة كانت لامرأة أخذت سهوا، تنفح ذا الكمان نقدا، تستعطفه أن يغني لها وصلة من "طرب الآلة" يقبل ذلك المتنطع، وإذ يشرع في تسلق الألحان بلا سلالم، تصل بي الحافلة إلى المحطة بعد لأي، أبدأ في مجابهة الأكداس الواقفة علي أختط لنفسي مسلكا أتبعه، أشعر بيد تتحسسني وسط الزحام، أقشعر لهذه الوقاحة، أحدهم يتعقبني، يجهد أن يرتطم بي، أستدير لألمحه بقامته الرشيقة وعينيه اللوزيتين، يبتسم لي بأدب أندفع من الباب ولهاثي يعلو، أمد يدي لآخذ منديلا كي أجفف عرقي النازف، لكن جيب تنورتي كان ممزقا وحافظتي لم تكن بداخله، تحققت أنني سرقت، وحين حاولت الصراخ بدأت الحافلة تتحرك والأجساد بداخلها تتماوج كأنها متردية إلى الهاوية، وأطل ذو القامة الفارعة وهو يدندن: " أش سماك الله كوليلي؟".

Post A Comment: