أوقات تبتسم له الدنيا، فيشعر بالرضا والسرور، ويتغير الحال من ضيق وحزن إلي مرح وفرح ، ويسبح في الجو  عبير فواح ، يبعث في النفس طمأنينة وسلاماً ، ثم تمر أيام وتأتي أوقات أخرى،مناقضة للأولى، تغضب في وجهه الدنيا، وتكشر عن أنياب شرسة كاسرة ، ورغبة متوحشة في الإنتقام منه ومن أمثاله من الصعاليك، تقف في مواجهته كمصارع عنيد، عتيد، لا يمل ولا يكل. أو كأنه، كما كان يحدث نفسه دائماً :لا سابق معرفة بينهما!،ولا شيء بينهما غير إلاقتتال والحرب .
رشف أخر جرعة من علبة البيبسي، وكأنه يرشف دواء  وصفه له الطبيب،  خصيصا لعلاج حرارة أغسطس وشمسها الملهبة ، شعر بالأرتواء قليلاً، ثم أحكم، بإصرار وعنف، قبضة يده حول العلبة الصفيح، فإنثنت ثم إلتوت تحت قبضة يده الحديدية،تذكر  كلاي وتايسون وغيرهم من العظماء ، ثم وضع، في كبرياء، العلبة المسكينة المحطمة ، في سلة صغيرة، بجانب ثلاجة البيبسي، في إشارة تنبيه ، ربما، لنفسه، وللمحيطين، ممن لاحظوا عملية الدهس اليدوية القاسية ، علي أنه مازال يقظا ويحتفظ بتوازنه وعقله!. لمحه عم فوزي صاحب الدكان بطرف عينيه، وأبتسم إبتسامة ساخرة، وهو ينظر، بلا مبالاة، إلى التلفاز المعلق بجانب أرفف وضع عليها علب مناديل وصابون وماكينات حلاقة . 
حرك السلة بضربة خفيفة من قدمه، ثم وضع يده في جيبه، وأخرج ورقة بخمسة، هي الوحيدة المتبقية من أصل ألفي جنيه، كانت  حتي صباح أمس تشرف محفظته بوجودها النيبل والكريم معا ، لولا قائمة الإنتظار الملحة، من تغيير للمفارش والملايات وإصلاح للدولاب والتلفاز وشراء لحوم أيضا . 
نظر إلى السماء كأنما  يستفسر عن شيء ، ثم عاد ونظر إلى عم فوزي، الذي ظهرت عليه أمارات الملل والضجر، فجلس علي كرسيه، يتابع الأخبار التي بدت لناظره ممللة ومكررة،فيما وضع، هو، الخمسة جنيهات أمام عم فوزي، فوق علب البونبون والمستيكه، دون أن يكللف عم فوزي عناء الإلتفات نحوه، لكنه، بالطبع، لمح الخمسة جنيهات ، كعادته. إستدار، موليا ظهره وأفكاره للدكان، نحو وجهة غير معلومة. 

2
أدركت خطواته السريعة العصبية باب الشقة، فوضع المفتاح في الكالون وفتح ثم دخل . كان يشعر بإرهاق عام، وألم شديد في ركبتيه،بفعل المشوار الطويل، الذي مشاه من الدكان حتي الكورنيش، الذي يعج بعشاق مطروح وبحرها ، لا لشيء سوى الخروج من حالة  الملل وألاكتئاب ، التي تصيبه من وقت لآخر، هكذا نصحه  الأطباء وبعض المقربين ، المشي أم الرياضة . جلس  في الصالة علي كرسي بلاستيك ، ثم أراح يديه  فوق فخذيه، وراح يفكر في الصمت والهدوء ، الذي ينتظره كل يوم في هذا التوقيت، إعتاد منذ فترة ألا يجد الأولاد بعد العصر، بسبب الدروس الخصوصية، حتى زوجته تذهب لتوصيلهم، بعد أن تنتهي، عادة، من إعداد الغداء، ثم  غسل الأطباق ،  لتمر، بدورها، بعد ذلك  على حماته، ثم يعودون جميعا بعد العشاء. خمس ساعات كاملة وحيداً هو وهمومه وطموحاته،  كأنها هبة حياتية، أو نفحة محبة إستثنائية ، فمن الصالة إلى التلفاز في غرفة المعيشة ، ومن التلفاز إلى المطبخ وكوب القهوة المعتاد ، ومن المطبخ إلي الحمام وعصاب الدش ، وربما يتخلل ذلك قراءة في قصة أو مقال أو كتابة منشور علي الفيس بوك. فكر  بحسم، هذه المرة، أن إلافلاس عدو شرس ، وشعور قاس كقسوة السوط علي أجساد  البشر،وأنه لابد من عمل شيء إيجابي.  حدث نفسه بعزم :لماذا لا أبحث عن عمل إضافي؟ أشغل به وقتي، وأحصل علي المال الذي أريد . وجدها فكرة جيدة، وشعر بالأمل والتفاؤل يحتويه ،، حتي عاد وسأل نفسه، :أين؟ ماذا أعمل؟ لقد أقتربت من الخمسين، وأرباب العمل يفضلون الشباب،فهم يعطون أكثر ويأخذون أقل!، وهم أيضا كثرة !، أصابه إحباط مرة أخرى، إلا إنه كان عازما علي صنع شيء جديد ، نظر فيما حوله، متحديا ، فلاحظ أن الأرضية غير نظيفة والسجاد أيضا، فعزم على أن يقوم بمسح الأرضية، وغسل السجاد، غير ملابسه ولبس شورت مع فانله حمالات،رفع السجاد، بحماس، من كل الغرف ووضعهم في الفراندا،بعدها  قام بكنس الأرضية وإزالة التراب بعيدا . ثم قام بغسل السجاد بالمياه والصابون، بواسطة خرطوم ممتد من صنبور الحمام، ثم قام بوضعهم علي سور الفراندا. 
3
فتح ثلاجة البيبسي بلامبالاة ، فأصدرت صوتا ضايق عم فوزي، الذي كان يقوم بتنظيف الأرفف وألاركان، إلتفت إلى مصدر الصوت،، وقد إشتدت قسمات وجهه غضبا، وتقاطعت فيما بينها ، وخرج من عينيه السوداوان شرر كاد أن يحرق الدكان بمن فيه . 
-علي رسلك يا أستاذ، لن تطير الدنيا 
-معذرة عم فوزي، لم أكن أقصد.
أخرج العم فوزي قطعة جبن من الثلاجة ، ووضعها علي الميزان، ثم رفعها وقام بلفها ثم تركها بجانب قطعة جبن رومي كبيرة، أخذ نفساً عميقاً ثم قال :هل  سأخذ حسابي كاملاً هذا الشهر، أم كالعادة يتبقى جزءاً للشهر الذي يليه؟ - 
-لا تقلق.. سوف تأخذ حسابك كاملاً بإذن الله. 
فتح العلبة وهو يفكر كيف سيعطيه نصف حسابه حتي؟ وقد نفد المال كله بالأمس. 
رشف أخر جرعة من علبة البيبسي، وكأنه يرشف دواء وصفه له الطبيب، خصيصا لعلاج حرارة  أغسطس وشمسها الملهبة.







Share To: