( كان يظنّ أن القدر سينصفه أخيرا..شمّر على ساعد الجّد..بنى بيتا لائقا قرب أهله في ذلك الجبل النائي..بدأ يفكر في الزواج مثل بقية أقرانه..لكنّ المنيّة أخذت منه والدته..على حين غفلة..هذا الحدث الأليم..حفر في نفسه عميقا..بكاها في نومه ويقظته..كان يرغب في تعويض تلك الام العظيمة على سنوات الضنك والتعب التي عانت فيها الويلات في صمت مهيب وارادة فذة..كل تلك الاعوام التي عاشها معها..لم يسمعها قط تشتكي او تتذمر..راضية بنصيبها ولو كان مقترا..تبيت على الطوى أحيانا بنفس راضية اذا شبع أولادها..تردّ اللقمة عن فمها من أجل اسكات أفواه كثيرة حولها..بفقدها أحسّ بفراغ هائل موحش..احتاج حنانها في أوقات كثيرة..ناداها في أحلامه ورؤاه..ناجاها بقلب باك حزين..لكنّه الفراق الاخير..وياله من فراق..!!
ذلك الوداع..أصبح مثل ثقب أسود يبتلع كل ألوان البهجة في قلبه..كل لحظاته السعيدة في ما بعد أضحت باهتة..كان يشعر بالضياع رغم حبّ جدّته له وحنانها عليه..فكان أن تعهدت بتزويجه من خيرة بنات القرية..حتى تقرّ عينها بفرحته..!!
في يوم الزفاف..لاح له طيف أمّه..بحركتها الدؤوبة التي لا تتوقف..بملابسها المعتادة..بهيئتها المميزة..بتفاصيلها الصغيرة..لمحها تطوف في أرجاء الحفل والناس..انزوى بعيدا..وبكى غيابها بنشيج مكتوم..أراد أن يضمها يوم فرحته..أن يقول لها كلاما كثيرا..بقي حبيسا في أعماقه..أن يعانقها ويشكرها على ما بذلته من عمرها وصحتها في تربية أولادها..أن يوشوش لها بما يجيش في نفسه من مشاعر متناقضة في ذلك اليوم الذي لا يتكرر..!! ناداها بصوت غير مسموع..أنا العريس يا أمي وهذا الحفل لي وهذه الجموع جاءت من أجلي..فلماذا غبت عني؟ وانت أم العريس؟ أنت صاحبة الصولجان؟ أنت ملكة هذا المهرجان؟؟؟؟
كان يرغب في الابتعاد عن الضجيج وأن يصيح بكل قوته..يريد أن يفرغ كل الحزن في صرخة واحدة..أن يزيح عن قلبه ما كتمه من وجع وضيق..لكنّ تلك العبارات بقيت دفينة وانهمرت من عيونه..دموع سخية..صافية..نقية..
مسحت كل مآسي العمر الذي ولّى..وانقضى..!!
بدأ حياة أخرى مغايرة لما ألفه..حياة زوجية سعيدة..في عشّ رحب مليء بالمحبة والسرور..ضحكت له الدنيا أخيرا وازدانت بمولودة جميلة..بهيّة كالقمر المنير..رقيقة كالصباح النديّ..مرحة حييّة خفيفة كالملاك الطاهر..ملأت البيت حبورا وغبطة.. و قلب أبيها الدامي بهجة ورضا...شغفته حبا عظيما...فأعطاها بلا حساب من فيض حنانه الوافر..!
هذا الكائن الوافد من ملكوت الله..هو الهدية الربانية التي جاءت لتؤنس وحشته وغربته..لتزيح عنه آلام اليتم والضياع..لتمسح أدران قلبه البائس..لتكفكف لواعجه الدامية..وتشعره بالأمان الذي فقده.. فأقبل على الحياة اقبال الحالمين..المغرمين..العاشقين..!!!)
Post A Comment: