عصافير.. لا ترى إلى ظلها.. أوشام غيث.. أطياف ماء.. الطريق.. مراثي الحجر.. العطرشاء.. تباريح الصبابة وتسابيح الربابة في محبات عنابة.. مرايا الغبار.. وصايا الأعمى.. وصية الأعمى الأخيرة.. شموس سوداء.. كلمع ماء في غسق الهتاف.. وميثولوجيا. هي نصوص فزع كما وصفها كاتبها، صدرت عن دار خيال(2021). وفيها رسم بإتقان حدود الفصل والوصل بين متناقضات تتوازى وتتقاطع!!
فإذا كان المنطق هو الآلة التي تمنعنا من الوقوع في التناقض، وإذا كان مبدأ الثالث المرفوع يرفع الحالة الوسطى بين المتناقضين، فتكون القضية إما صادقة أو كاذبة ولا وسط بين ذلك، فإن المفارقة هي القضية التي تجمع بينهما، وهذا ما يحرج العقل ويربك النفس، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن أبعاد التقابل في نصوص "أغيب و يحضر ظلي".
أولا: بيان الشاهد
بوصلة القلب تشير إلى الجنوب.. إلى قفار الخيبات.. والعمر ساعات عربدت عقاربها واستسلمت للعنة كرونوس.. وأنا لا أزال أنا الكائن الأسطوري المعجون بماء المفارقات.
أنا الفرح المؤجل والحزن القادم متعجلا.. أنا الأمل يجثم اليأس على صدره.. أنا الموعود بفراديس النعيم يتربص به الجحيم.. أنا الشقي دون الكائنات.. المبتلى بعقل أتعبه التفكير .. بقلب أرهقه الشعور.. ولسان ضاع منه الكلام.
أنا الحضور والغياب.. و إذا ما غبت سيحضر ظلي.. وغبت.. ووجدتني أمامه.. أمام ظلك.. أسأله.. أسائله.. لكن صمته كان الجواب.. وعندما أدركني الرحيل.. دعاني للبقاء، ففتحت نوافذ العقل والقلب لتهب عليه رياح الحكمة.. وتنعشه نسمات المشاعر.
ثانيا: بيان الغائب
السفر في جسد اللغة ابحار في عيني القصيدة، وأمواج أبجديتها شعر ونثر "يورطنا في أسئِلة المعنى ومعنى الأسئلة".. والسؤال مفتاح الكتابة.. عند بابها يقف الشاعر يحمل قلبه بين يديه.. ينثر القاص قصصه على أوراق الخريف..يبعثر الروائي رؤاه.. وبحكمته يباركهم الفيلسوف.
الكاتب كل مركب معقد، تتماهى داخله مشاعر متداخلة معاقبة: حزن.. وجع.. أسى.. بكاء.. إنه الإنسان الذي يحترف الألم ويجيد الصراخ بصمت.. بيمينه قلم.. بشماله ورق.. على طرف لسانه حروف وكلمات.. في العقل منطقه.. وفي القلب شعور غير الشعور.
الكتابة طقس من طقوس الوعي.. حفر في الجسد.. نبش في الذاكرة، ونقش على الروح "وهي تتهادى في أفق منطقة غير مرئية.. تداعت عليها الأوقات والأزمات، وغيلان الغبار العالقة بجناح قصيدة" جميلة حزينة متعالية.. كغيمة تمطر نصوصا للمحزونين والموتى والعشاق.
القلم عقل الكاتب ولسانه.. ينقل حلمه من الخيال إلى الواقع، حتى وإن لم يرحب بأحلامنا الجميلة. نودعها وهي "الموصولة بماء الروح وجذر النفس وطفح الذات وغرر الخيبات".
القلم جسر اللقاء.. تتقاطع عنده الأفكار والأقدار.. تتقارب عنده الإحساسات والإدراكات.. تتمازج فيه الإنفعالات.. تتعانق فيه المتناقضات بعد طول جفاء، وتصادق على قول "عبد الحميد شكيل": "قد نلتقي/لا نلتقي/ لكننا سنظل في بحث لا ينقطع عن نص لا يخون/ وقصيدة لا تسقط في شبابيك العار/ وليل لا يكره الغرباء/ وعشق طافح بالوصال مقيم".
ثالثا: صور التقابل
يتجلى التقابل في هذا الكتاب على امتداد 13 نصا: الحضور/الغياب، الصمت/الصراخ، العلو/الانخفاض، الحرية/ القيد، التشاؤم/التفاؤل، النزول/الصعود، مقبلة/مدبرة، قبل/بعد، أبعدك/أدنيك، الليل/النهار، المكان/الزمان، السر/الجهر، الفر/الكر، البر/البحر، هدأ السكون/ضجة المرايا، السماء/الأرض، الوفاء/الخيانة، السواد/البياض، كنت/صرت، الظن/اليقين.
وجاء التقابل في عدة أشكال، فأحيانا يكون معلنا واضحا و أحيانا أخرى خفيا مضمرا تكشف عنه سياقات القراءة والتأويل كما في نص "أطياف ماء". أما في نص العطرشاء، فجاء التقابل في صيغة التعدد، وفي "تباريح الصبابة" من خلال التساؤل الذي يعكس تهكم الكاتب.
رابعا: جدلية الحضور والغياب
تروم الحمولة الدلالية للعنوان ابراز التقابل بين الحضور والغياب من خلال فتح باب التأويل على الحضور، فقد جعل الشاعر غيابه تاما، في حين ربط حضوره بظله (أغيب/يحضر ظلي). وهو بذلك يستشكل الحضور في ذهن المتلقي، فيأتي السؤال ملحا: كيف يحضر الظل دون صاحبه؟ ألا يعتبر الظل انعكاسا لصاحبه يتحرك بحركته ويسكن بسكونه؟ إن الغياب بهذا المعنى سيكون أقوى من الحضور، لأن الحضور الذي تجاوزه الشاعر هنا هو الحضور الجسدي، الذي يمثل بالنسبة إليه كتلة من الفراغ.
وانفتاح القراءة على ما وراء العنوان سيمنحه دلالات أخرى، على اعتبار أن الظل إشارة إلى المعنوي سواء كان صورة، شعورا أو فكرة، في مقابل المادة أو الجسد. وتكشف الرؤية التجريدية التي تفصل بين المادة والصورة عن المستوى الإدراكي للكاتب والقارىء، حيث يرتقيان فكريا من المحسوس إلى المعقول نحو المجرد، وهي مرحلة من النضج الفكري لا يبلغها الكاتب إلا إذا كان قارئا جيدا، ولا يستمتع بها القارىء إلا إذا كان صديقا وفيا لكتب الأدب والفكر والفلسفة.
وتحيلنا جدلية الحضور والغياب إلى المنطق الجدلي الذي قام على أنقاض المنطق الأرسطي. وفي المنطق الجديد يصبح الجمع بين المتناقضين مشروعا. لذلك،يؤكد "هيجل" أن التناقض جوهر الحياة والفكر والتاريخ. فنحن لاندرك الصحة بمعزل عن المرض، ولا نستوعب الموت إلا من خلال الحياة، ولا يمر علينا اليوم إلا من خلال تعاقل الليل والنهار، وهكذا لا يستقيم الغياب في الذهن إلا من خلال الحضور.
وبهذا تعكس جدلية الحضور والغياب التفاعل بين المتناقضين، ورغم ما يبدو بينهما من تعارض ظاهري إلا أنهما متكاملان، و الإنسان هو همزة الوصل بين حضوره والغياب.
وننوه في هذا السياق إلى أسلوب الشاعر "عبد الحميد شكيل" الذي يتماهى فيه الشعر مع النثر، وهو أسلوب أنيق قائم على تطويع اللفظ وتهذيب المعنى.. يدعو القارىء إلى التأمل فيما وراء النص. وتعكس نصوصه مرجعيته الفكرية، ورؤيته الصوفية التي تتجاوز سطحية العبارة، وتفسح المجال أمام عمق الإشارة.
Post A Comment: