سمعت صوت الناي، كان يختفي كلما تقدمت أو تأخرت، تسمرت أتلصص الأماكن التي يمكنني سماعه منها بوضوح، يختفي من موقع فألاحقه بآخر، يضيع في أحيان تتبعي لخيوطه الولجة لداخلي، وأحيان تضيعه أحاديث العابرين السخيفة، أنتبه للتغير بين مستويات ألحانه، ويخطفني بوق عربة لمسخ يريد العبور خلال سكينتي وفوق لحم المارين، رائحة الشارع تمتزج مع صدح أنغامه وتسحبهم أنفاسي مداعبة لصيرورتي، الصوت في منتصف الطريق تقريبا، وأمام مدخل لزقاق يشرف على ساحة ونافورة لمنزل أرستقراطي من عهد الخيديوية، مهمل ومتروك حسب ما تلقني إياه ذاكرتي، من منتصف الطريق لآخره خواء سور معهد الفتيات اللواتي قصفن أحلامهن قلوب شباب الحي بأكمله ومازلن يفعلن عن تراضي من طرفي الحروب، بعد السور أطلال سينما إلى جوار برج شاهق كائن على أنقاض مسرح وفوق تجليات مبدعين لروائيات شكسبيرية تمت لشكسبير نفسه أو عروض متحورة عن أدبه،  على البسطة المقابلة لمدخل السينما إعتدنا اللهو صغار وملتنا أوقات تعبة من إنتظار أصحاب العروض الأولى من مشاهير وممثلين، لإلتقاط هيئاتهم على الطبيعة، أكثرهم شهرة كان مالك الصرحين وأحد معمري الحي الأوائل، من المنتصف في الجهة المقابلة لمدخل الزقاق، مكتبة الأفغاني القائمة بهشاشة تبيع الأقلام والورق وكتب الدراسة لمراحل التعليم الأساسي المختلفة، بعدما كانت أحد أهم دور النشر  في البلاد، لجوارها كانت كبريات محال النسيج، والذي تحولت مساحته الكبيرة لعدد من المقاهي المتلاصقة التي تنتن بمريديها الدائمين، أي مبصر يستطيع إطلاق عليهم بسطاء، لكن من ندائاتهم بعضهم بالألقاب النابية والسخرية المتواصلة على كل حال تجعل مستبصر مثلي يطلق عليهم، مخادعين أو مرضى نفسيين؛

في المنتصف حيث أقف كشفت عن ساقيها، هذه الدنيا التي أربكتني وخطفت بصري وجالت تتحدى المستبصرين، أعلى مكتبة الأفغاني هو منزل العائلة التي هجرته لأحد الأحياء الراقية بعد بيعه، البلكون الذي أتخيله ما زال قائم، في أحد أركانه كنت أدفن كتاباتي ورسائلي ويومياتي وسجائري ومشط الكبريت الذي لا يشتعل أثر الرطوبة المفرطة في الأركان، أسفل زينة الثوم والبصل كنت أجلس أرضا أشعل الكبريت بمرارة السيجارة بين شفتي المتشققة الداكنة، متواريا خلف سورها الذي لم يتستر على فعلتي يوما وطالما جلب لي سؤال ونقم الناس وعقاب الأب والخال ونظرة العم الساخطة المتوجسة خيفة على أبنائه من الضياع مثلي، وعن طفلي الذي كان في الماضي يتمرد على الصعاب بمزاولة التدخين متأثرا بمقاومة الكبار؛

من المكتبة إشتريت أول كتب القصائد من مال مسروق، كان القرار ملهم أن أهتم بشيء يجعلني أكثر تمردا، دفعت مقدم القصيدة ريالان بالثمن المسروق من أجل أربع سجائر ومشط كبريت جديد، ولما سؤلت عن البطاطا الناقصة من متطلبات غداء ذلك اليوم، رفعت كتابي عاليا منتصرا على جوع الأهل وشغفهم بالبطاطا، ودعت إبتسامة الأم بنسختي الضعيفة منها بعدما شعرت بنضارة شفاهي من جديد، كانت القصة ذات صدى واسع في العائلة، جعلت من أبي يطمئن ويعقد إتفاقه مع المكتبة ومعي، أن ألاحق كل جديد في الفتارين، من بين الكنوز التي أتاحتها مبادرة الأب، كتاب عن آلات موسيقية، ضمن إحدى صفحاته وصف للناي، وذكر أهم عازفيه منهم الشعبيين ومنهم من كان يوما عمود يقيم أوركسترا عالمية، وصور من نوتات عزفت في أهم المحافل وإحتفت بها دور الأوبرات في أكثر من مدينه، كانت لتلك الآلة الموسيقية وقع خاص في سير حياتي، صدفة جعلتني أحاكي بها  فاتن عن الآلة، كان الحكي بشغف مصطنع من قبلي لأني تمنيت لو أعجبها الناي وبالتالي تعجبها إهتماماتي الجديدة، أردت إفهامها بأني تغيرت من طائش إلى صاحب عقل يمكنه أن يحكم على أي شيء ونفسه، كانت كلماتي تخبرها بمذهبي المتجدد، بالمثقف المبتديء  الذي لن يمكنه أن يقول لها أحبك بأي روح معرفية، ومثلما كان لا يمكنه وهو طائش، ربما أفاضل الآن بين قناعتي الحالية بأن إختيارات الإنسان هي إختيارات خارج أطر التعقل إن فكر بمعقول لمشاعره وبين ما ثبت أن الذي لا يعقل هو الذي يفكر به المرأ إجبارا على الدوام، وسواء كنت وقتها مسلوب أو حر الإرادة فاعل أو يفعل بي، لم تكن لفاتن أدنى إهتمام إلا بإكتشاف تلك الآلة، كأنه عشق ولد لتوه في قليب الفتاة الضئيل، و التي كانت المعازف تمثل لها، كقطار آت من الغرب وذاهب للشرق ولا أدنى فرصة لأن يتوقف لها، ولا تنتبه إلا لصفيره المزعج، بل وتهش عنها أنغامها بدعوى الحلال والحرام، وهذا الحرام هو ما جعلني أتوجس ريبتها مني إن صرحت ببساطة قولا بما تبوؤ به عيني، قالت في أحد المواقف نظراتك غريبة اليوم، وذات مرة عينك لامعه جدا، حتى فهمت فقالت أراك شاردا في، تحسست بعدها إرتباكي فقالت لا تقول مالا نستطيع تحمل عقباه ياصديقي، نحن الصغار على عتبات العشرين لا يؤمن لنا هذا الذي تنتظرة فرصة للنجاة، فحتى مع تكتمي المعلن لم تكن لي فرصة نجاة، عامان نضبت خلالهما أي فكرة عن سبيل لإقناعها، وعامان أخريين فترة تجاوزنا للأمر، أو تجاوزها المندفع لكل شيء والتي منها صداقتنا ولقائاتنا خارج أوقات الجامعة ذاهبين لها أو عائدين للحي، كانت فاتن كل فكرة تتلاشى من ذاكرتي مع إفتتاحية أي كتاب جديد، وأغر فكرة تقتحمني بعد قرائتي خاتمته، قرأت جل كتب العشق قصائده ومروياته المحكية على مائدته، كانت كالمنتظرة خارج قولات الروائين والشعراء والحانية على قلبي بعد رحيل غير مأسوف لهم، أصابني نهم القرائة بالثامنة والعشرين، أقرأ الجرائد والإعلانات، وكتب الفيزياء والقانون والأدب والموسيقي، كنا قد رحلنا حينها عن الحي، بعد مغالبة أمي لي كي أتزوج، تلوم أساليبي في طريقة عيشي وتسخط على قرائاتي وإهتماماتي التثقيفية لنفسي ولغيري، لكن أبي كان قد إستسلم لمشيئة الرب، متخذا بذالك أسبابه في الإنتقال بي من عالم تورطت فيه إلى عالم حسبه سيجدد من شهيتي، لكنه بات لأعوام يطمس محاولاته في تعنيفي وينفي أي رغبة في لمس أغوار أحزانه بسببي، في الخامسة والثلاثين حذرني طبيب العيون من القراءة مجددا لفترات طويلة بعد عملية جراحية دقيقة، ولأني متمرسا في التمرد ضربت نصائحة عرض غطاء بالوعة فلاذية لتسقط بالأخير خارج إهتمام أي إنسان وليس إهتمامي وحدي، نفس العام كانت فرصة حصولي على درجة الماجستير، وبعدها بشهور  قليلة رحل أبي، أشفقت كثيرا بعدها على حال الأم فصرحت بجدوى غير مرغوبة مني بالزواج، نشطت الأم تحمل مسرة حبيبها المتوفي أسفل إبطها تبحث وتتلصص وتنجم، وبعد شهور من المعاناة المعفاة من أي نحيب  عادت بصيد يستصاغ، تمت الخطبة وشهدتها عيون المحبين إلا عيني، بات كل شيء مشوش وأخذت الصور تزول والأحداث تتباطأ وتركن وتتوقف، وبدأ عهد سماعي أول أخباره وفاة الأم، كنت منكب على حزني أعزل فى دماسة الآتي، طلبت الخطيبة الفراق عن تراض ورضى، أخبرتها بأن جائزتها ستكون عند إنهائها آخر إختيار لها، سألتها أن تقرأ لي رواية العمى أو تتركني مع لغزها وترحل، قرأت أول سطورها، وبدت راحلة رغم مكوسها في أذني تتذلل الرحيل، أطلقتها وجئت للطريق معي الرواية والذكريات والحنين وصوت الناي الذي عاد لتوه الآن؛

قاطع الصوت شبق ذكوري أحمق، بإهتمام سألني لو أن لي حاجة أو أردت عبور الطريق، قلت فقط وجهني للزقاق ثم دفعته إنتظر، متأسف،وأشرت للمكتبة بخبرة المتآلف مع المكان وسألته، هنالك مكتبة أعلاها منزل هل مازال قائم أم تغيرت ملامح المكان، قال المكتبة قائمة والمنزل أعلاها مهدم إلا البلكون، إبتسمت وقلت  كنت أعلم هذا، وجهني إذا للزقاق، تحسست المدخل الضيق وضربت وجهي نسمة المساحة الكبيرة بعد الممر، كأن صوت العزف يقترب، يقترب كثيرا، وحتى تعثرت بما بدا ركام للنافورة، عندها توقف الصدح العذب، وعذبت أطرابي أكثر عندما نادى متعجبا صوت أنوثي طالما تردد بمسامعي في لحظات ساشعة الحنين، شادي!!، إلتفت لمصدره، نعم، لا تتوقفي عن العزف رجاء، أسرعت تلتقف يدي قبل أن أهوي منكب وقبل أن تتناولني بكبري وإنفعالى المتعال عن أي مساعدة من أي مخلوق حتى هي، إستسلمت لتوجيهها حتى جلسنا متجاورين على أحد العتبات، انتبهت لكتابي الملقى على الأرض أثر حادثتي المنتهية إلى رحابها، ذهبت مسرعة تجلبه وعادت وجلست، قلت نعم يا فاتن العمى أخر الكتب الذي يمكنني بإستطاعة متهالكة هشة أن أستوعبه، لم تسألني عن المآلات التي جعلتني أزور الحي اليوم، ولم أسألها منذ متي تتردد على منزلها القديم، فقط قالت تزوجت وتطلقت، وسألتني إن كانت أحد أسباب تحصيلي المشفق للظلام منفردا، قلت لها لم أجني ما جناه يعقوب حزنا على بنيه، فقط إهتممت بالبذرة التي زرعتها في نفسي منذ الصغر،  وكما إهتممتي أنتي ببذرتي التي وضعتها فيكي، عشرون عام وقع فيها نظري بين الكتب، وخمس وأربعون حياة تجددت كل سنة ولم تغيبي أبدا عن ذاكرة منها، مازلت أراكي على هيئتك الصغيرة رغم خشونه الصوت قليلا، شعرت أنها تدمع لكنها كذبت شعوري عندما قالت الحياة وأفاعيلها يا صديقي، قلت نعم ولكني أردت دوما سؤالك لكن السؤال يتحور الآن ليناسب الموقف، أرفضك المتوال لي صادر عن إيمانك برفضي، أم أنه تحول الآن لإشفاق فيكون حبك لي مشوب بالضعف، صمتت فحسب حتى تخيلت أنها غابت مجددا، قلت مبتسما إبتسامة المستبصرين المعهودة، الآن أدرك ندمي على أن فراقك لم يكن أهم أسباب قفول النور من حولي، كنتي لتحملين إثمي وتذهبين دون عودة تستخفين بحزنك الذي جئتي تدفنيه مع المدفون هنا من التاريخ الماضي، على الأقل سأضمن أنني وحين أشتاق لك أهم آتيا إلى هنا دون مخافة ألا أجدك .

#رامي_حلبي







Share To: