بعد انتظار طويل ، تبينت ألوان الحافلة المرغوبة من جديد ، بعد تلك التي لم تحترم علامة التوقف ، و تركت كل الركاب يترقبونها  بعيون تملأها الأحقاد ، محركة  وابلا من الشتائم في أجوافهم ، و هي تمر على مناظرهم دون أن تكثرت. 
 حزمت أمتعتي ، و وقفت منتظرا من أجل الصعود ، الكل كان يفيض غيضا ، و نحن نركب الحافلة  ، و لا أحد له  القدرة على المناقشة في قالب محترم أو الاستماع إلى الآخر بشكل متحضر ، أو اتخاد خطوة من أجل التبليغ على رقم الحافلة  التي تغاضت على الوقوف عند علامة المرجوة من أجل الركوب . 
سددت واجب تذكرتي و اخترقت الراكبين لأجلس في مقعدي المفضل في الخلف. 
أخد كل الراكبين  أمكنتهم و حاولوا تناسي كل ما حدث و هو لا يزال يتأجج بدواخلهم ، و بدأوا في تجادب أطرف الحوار مع بعضهم البعص عن مختلف قضايا الحياة و همومها. 
كنت لا أزال أفكر في الدوافع التي دفعت تلك الحافلة إلى عدم التوقف ، كنت أطرح السؤال تلو الآخر ، و أحاول الإجابة ، حتى توقفت الحافلة من جديد في علامة توقف أخرى من أجل أن يصعد الركاب . 
كالمعهود عند كل علامة توقف فتح السائق الأبواب الخلفية من أجل نزول الركاب ، و الأبواب الأمامية من أجل ولوج الركاب الجدد ، في غفوة و الركاب يصعدون من الأمام و يسددون تذاكرهم ، صعد ولد صغير في الحادي عشر من عمره تقريبا من الباب الخلفي ، و هو يحمل بين يديه علبة كبيرة تحتوي على قطع صغيرة من الشكولاتة المعلبة ، و أخد يتطلع في كل الركاب يمينا و شمالا، و أخد مكانه واقفا بجانب أحد مقاعد ، كأنه ينتظر جلوس كل الركاب و أخدهم لأمكنتهم. 
لم تزغ عيوني عليه مند أن ولج الحافلة ، كان شبه تائه و هو يمسح بنظرة شاملة أوجه كل الركاب ، بأعين  تزال تلتصق بهم براءة الطفولة لكن بدأ يطبعهم  شيء من الحزن يفوق سنهم في هذه الحياة .
استجمع كل قواه و أخد يوزع قطع الشوكولاتة على الراكب تلو الآخر انطلاقا من الأمام ، كان يضع القطعة أمام كل راكب دون أن يفصح عن حاجته لشراء ، و النظرات تسترقه باستغراب  ، و أخرى تشمئز منه دون القدرة على كتمان ذلك الوهج الذي يطبعها .
كان يُوزع القطع  بين الركاب بشكل يفوق عمره يمينا و شمالا ، و هو يصطنع الابتسامة على شفتيه مستشعرا ذلك الرفض الذي يقبع بدواخلهم . 
 بعد الانتهاء من التوزيع أخد مهلة من الوقت ،  تم بدأ يجمع القطع من الأمام من النقطة التي بدأ منها التوزيع ، و يقبض النقود من المشترين على قلتهم ، و ملامحه تختزن كما هائلا من المعاناة ، و كل حواسي مشدودة نحوه بطريقة جنونية ، و هو يقترب مني ، و كل ما في  مسافر إلى ذلك الماضي البعيد يفتش بين تخوم الذاكرة حيث يقبع ذلك الطفل الذي يوازي وضعيته .
كانت ملامحي تفيض فرحا دون القدرة على التحكم في ارتسام الفرح على أحرفها ، و هو يقترب من مقعدي ، و يحاول أن  يسحب القطعة من أمامي ، أمسكتها و هو يحاول أخدها ، انتابته  الدهشة و عجز عن التخمين ماذا أريد ، فرفعت رأسي مبتسما في وجهه طالبا خمس قطع أخرى من الشوكولاتة  ، فتحركت كل الأحرف الذابلة على محياه متخلية عن كم هائل من الغبن الذي تختزنه.  
كنت أود أن أخبره عن الكثير و الابتسامة تلتصق بمحياه، كنت أود  أن أخبره أنه لازال سوف تلمقه و تواجهه  تلك النظرات الطاعنة ، تلك الكلمات الجارحة ،  تلك المشاعر التي سوف  تشعره بسيرورة هزائمه الداخلية. 
كنت أود أن أخبره أنهم سيدفعونه إلى الشعور بأنه على قارعة الرصيف، و أنه يتذيل الترتيب في الأحبال الحسية لقلوب من يعايشهم، كنت أود أن أخبره أن حتى تلك التي سيندفع نحوها بدون شراع سترتمي بين أحضان من تحب دون أن تلمقه بنظرة ، و أنهم سيدفعونه إلى الشعور بأنه الأدنى عندما يحاول أن يشعرهم بمكانتهم .
كنت أود أن أخبره أنه مزال سوف ينكسر و يُكسر و يبكي ليفرغ كل تلك الدموع ليرتاح و يرى الحياة بنظرة صريحة خالية من كل ذلك الزيف الذي يتوهمه.
كنت أود أن أخبره و أنا أصرخ بأعلى صوت، أنه في حاجة إلى كل تلك المشاعر ، و لكل تلك الدموع أن تنهمر من عيونه من أجل أن يخلق من نفسه شيئا. 
كنت أود أن أخبره الكثير لكن فضلت أن يستشرب كل هذا في الحياة قطرة ، قطرة ، و يشعر به و هو  ينسدل تحث جلده ببطء .
فاكتفيت  بتتبعه و الفرحة تشل كياني ، و هو ينزل من الحافلة و فرحة عارمة تتضح على محياه ، و هو  يلمق الحافلة بنظرة مثقلة بالحب،  و هو يبحت عن ملامحي من وراء النوافذ  ليودعني ، و كل ما يتحرك في فؤادي  مشدود نحوه ، و أنا ألمقه بنظرة دون أن يتضح له أني أراه محاولا  كثمان ذلك الوهن في داخلي الذي يريد الانفجار بالفرح  ، و هو يُلَوِح بيديه في الهواء ليودعني كمحاولة لتعليمه أن الملامح التي أشرقت في وجه اليوم يمكن أن تعبس في وجه غدا إلا الذين أنجباه معا سيظلان يبتسمان في وجهه في كل لحظة ماداموا  يتنفسون الحياة  .






Share To: