الوعي بالمشكلة هو الخطوة الأولى نحو حلها،مع وجوب العودة إلى جذورها وتحليلها وتناول أبعادها بموضوعية من عدة زوايا أملاً في الوصول إلى صورةٍ تقربها -قدر الإمكان-  من الجميع على اختلافاتهم،وإعادة الإلتفاف حولها من جديد خاصةً عندما تكون قضيةً وطنيةً وإنسانية ً كبرى بحجم القضية الفلسطينية.

ولا يجب علينا الإستغراب إن قلنا أنها رغم كل الظروف والمتغيرات التي عصفت بها تحتاج من وقت ٍ لآخر لإعادة الحديث عن جزئياتٍ مهمة تخصها، وخاصة ً للأجيال الشابة لمنع خلط المفاهيم الحقيقية بالمفاهيم التي تبث عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولخلق تواصل ٍ بينهم وبينها يشعرهم بأنها تمسهم بشكل ٍ فعلي ومباشر، فلا زالت القضية الفلسطينية في أذهان الكثيرين قضية ً دينية فقط، وكأنها مجرد عداءٍ بين العرب واليهود وأن سبب المشكلة هو سببٌ دينيٌ بحت وهذا قطعاً غير صحيح، بينما الواقع أنه نضالٌ ضد "اسرائيل" بكل ما تمثله ككيانٍ استعماري،بعيداً عن اليهود الذين عانوا من تشويهها لصورتهم مثل ما يعاني الفلسطينيون بسببها.

فبالرغم من أن فلسطين وطنٌ له مكانة خاصة لدى جميع المؤمنين ويضم أماكن مقدسة للمسلمين والمسيحيين واليهود وطوائف أخرى كالسامريين ومدينتهم المقدسة هي نابلس، والأحمديين والذين لديهم دور عبادةٍ خاصة في حيفا ويافا، والبهائيين الذين تشمل مدن عكا وحيفا مزاراتهم المقدسة،فضلاً عن طوائف أخرى كثيرة، الا أن جوهر المشكلة هو صراع فكري،يبدو ظاهرياً على أنه في فلسطين ولكنه يشمل كل البشر، والقضية الفلسطينية قضية إنسانية متعددة الأبعاد والبعد الديني هو من أهمها لكنه ليس الوحيد.

فاليهود الفلسطينيون لازالوا يعيشون في فلسطين لكنهم مهمشون رغم أنهم يهود لرفض الكثير منهم الانخراط في الدولة العبرية ويعانون من تجاهلهم، وكما أن السياسة الإسرائيلية تسعى إلى طمس الوجود المسيحي في فلسطين وتهجير المسيحيين والاستيلاء على أراضيهم، لتظهر أن الصراع هو بين المسلمين الذين تم شيطنتهم في الإعلام الغربي وبين أقليةٍ يهودية مضطهدة بسببهم وهذا غير صحيح، فكل الفلسطينيين دون استثناء يعانون بسببهم، وهذا أيضاً لا ينفصل عن التفرقة بين المهاجرين اليهود من قبل النظام داخل "اسرائيل" وتصنيفهم إلى:

1- أشكيناز (وهم بشكلٍ عام اليهود القادمون من الدول الأوروبية والغربية وروسيا مع وجود تصنيفات أكثر لهم تختلف عن التصنيفات المتعارف عليها ويشكلون قرابة ٧٤% من يهود العالم).

2- سفارديم (وهم كما يعتقد البعض من اليهود الشرقيين وخصوصا ً من اليهود العرب وهذا الوصف غير دقيق، وأصلهم يعود إلى إسبانيا والبرتغال لكن الكثير من الأوروبيين هم من يهود السفارديم ويشكلون مع اليهود المزراحيين قرابة ٢٦% من يهود العالم، ومنهم الرسام والنحات الإيطالي أماديو موديلياني، والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا،والفيلسوف والناقد الفرنسي جاك دريدا،والروائي والكاتب المسرحي الألماني الياس كانيتي،والدبلوماسي الفرنسي رينيه كاسان الذي شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحاز على جائزة نوبل للسلام بالتزامن مع دوره البارز كرئيس للتحالف الإسرائيلي العالمي (الفرنسي-اليهودي)، والذي عمل مع اللجنة الأمريكية اليهودية ورابطة الأنجلو-اليهودية على تأسيس المجلس الإستشاري للمنظمات اليهودية،وهي شبكة مكرسة لبناء الدعم اللازم لبرنامج كاسان الخاص بحقوق الإنسان (من وجهة نظر يهودية) وكان له نشاطٌ صهيوني بارز،وبنجامين دزرائيلي السياسي البريطاني ورئيس الوزراء الأسبق والذي كان له نشاط تمكن من خلاله من شراء ٤٤% من أسهم قناة السويس في مصرعندما كانت تحت الإستعمار البريطاني، كما دعم أيضاً فكرة إنشاء وطنٍ لليهود في فلسطين ويشترك فيها أيضاً مع الشاعرة الأمريكية ايما لازاروس وقد سبقت هرتزل بالدعوة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ب ١٣عاماً وهي من اليهود السفارديم أيضاً).

3- اليهود المزراحيون (وهذا المصطلح يطلق على اليهود الشرقيين مع تنوع خصائصهم وبشكل خاص اليهود العرب،لكن يدخل في هذا التصنيف اليهود من دولٍ مختلفة مثل ايران،الهند،جورجيا،دول آسيا الوسطى وهم بشكلٍ عام يتبعون التعاليم السفاردية بإستثناء يهود اليمن والذين لهم تعاليم خاصة بهم).

4- يهود الفلاشا (وهم يهودٌ قادمون بشكلٍ رئيسي من اثيوبيا ويتم التعامل معهم بفوقية وعنصرية ولا يتقلدون المناصب العليا،ومنذ سنوات حصلت فضيحة إعلامية عندما احتاج بعض الإسرائيليين نتيجة أحد الحوادث إلى التبرع بالدم ولكن تم رفض تبرعهم بسبب أصولهم الإفريقية مما يعكس عنصريتهم وطبقيتهم حتى مع اليهود لمجرد أنهم ليسوا من أصولٍ أوروبية).

ثيودور هرتزل وهو مؤسس الحركة الصهيونية والذي بدأ حياته كصحفي وكاتب مقالات ومسرحيات بعضها رومانسي والبعض الآخر كوميدي،وكما يعلم الجميع سبقه آخرون من اليهود إلى نفس الفكرة لكنه كان الإسم الأبرز،ومما لا يعرفه بعض الناس أن مؤسس الصهيونية هو ملحد، مثل الكثير من الشخصيات الصهيونية التي لا تؤمن بالأديان ولكنها تستخدم اسم اليهود والديانة اليهودية لتحقيق أهدافها الإستعمارية،مما يؤكد على أن الصهيونية فكرةٌ تتستر بالدين حيث يدعم عدد من اليهود حول العالم الشعب الفلسطيني ويعارضون قيام دولة "إسرائيل" ويصرحون بأنه مخالفٌ لتعاليم التوراة، وأنها إساءة إلى المبادىء اليهودية التي نشأؤوا عليها.


فالدعوة إلى انشاء وطنٍ قومي لليهود في فلسطين متعلقةٌ بفكرٍ مادي بحت، يستخدم رموزاً دينية لإعطائها هالة من القداسة لتكون بمنأى عن النقد كونها تستمد شرعيتها من نصوصٍ دينية كما تدعي وذلك غير صحيح،مما يؤكد على انقسام اليهود فيما بينهم حول صحة هذه الفكرة، وحول نظرة الكثير منهم إلى اليهودية فالبعض يعتقد أنها ديانة مقدسة يتبع تعاليمها، والبعض ارتأى تحويل هذه الديانة إلى قومية أو ثقافة فقاموا بتطويرها إلى فلسفات وأفكار ومبادىء خرجت في مضمونها عن تعاليم الديانة اليهودية وأفرغتها من مضمونها الديني،وتحولت إلى الحركة الصهيونية التي كان لديها العديد من البلدان التي اختارتها مبدئياً لإنشاء دولتها عليها وكانت أوغندا والبرازيل والأرجنتين ودولٌ مختلفة ضمن هذه الخيارات، مما يزيد في إضعاف فكرة (أرض فلسطين) كوطن قومي لليهود،لأنها كانت مجرد واحدةٍ من الإختيارات،وأن وجود اليهود عليها كان عابراً مثل اليونانيين والفرس والإغريق والفراعنة والآشوريين وغيرهم ولم يأتي أحد من هذه البلدان التي مكثت على أرض فلسطين أكثر بكثير من اليهود ليطالب بالعودة إليها،كما وأن فلسطين توجد على أرضها أقدم المدن في تاريخ البشرية وهي مدينة أريحا الفلسطينية منذ ١٢,٠٠٠ عام، وبنى فيها (هيرودس) حدائقها الغناء كما بنى عدة قصور شتوية منها قصور (تلول أبو العلايق)التي أهداها (مارك أنطونيو) إلى حبيبته (كليوباترا) ملكة مصر والتي حكمت أريحا في الفترة بين (٣٥-٣٠ ق.م)، ويقال أنها لم تكن على وفاق مع (هيرودس) الذي أثار حب (مارك أنطونيو) ل(كليوباترا) حفيظته، ولاحقاً أعادها (أغسطس قيصر) إلى (هيرودس)..
عدا عن مدن قديمة جداً مثل حيفا،يافا،عكا،نابلس،الخليل،القدس،الناصرة،الرملة،اللد وكلها مدن وجدت قبل الديانة اليهودية بآلاف السنين،فكيف تكون الأرض التي وجدت قبل مرورهم بها بشكلٍ قصير وسكنتها حضاراتٌ متعاقبة منذ زمن الكنعانيين ملكاً لهم وليست ملكاً لأبناء هذه البلاد؟ وكيف يمكن أن نصدق أن هذه الأرض كانت بلا شعب؟

هل هبط الفلسطينيون من الفضاء عام ١٩٤٨ بكل أديانهم وطوائفهم وخلفياتهم الثقافية والإجتماعية والحضارية التي تكونت وتراكمت عبر قرون،وذكرت في البرديات المصرية القديمة وضمن الآثار البابلية والآشورية وتوجد آثارها في العديد من المتاحف العالمية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول لمجرد أن يحاربوا المهاجرين الذين تدفقوا من أوروبا وأنحاء العالم وكلٌ منهم لا يتحدث لغة الآخر ولا يوجد بينهم أي قواسم مشتركة؟ وأين توجد القدس،بيت لحم،والناصرة والتي ذكرت في الإنجيل والقرآن بشكلٍ واضح وصريح؟ هل كانت هذه المدن المقدسة فارغة عندما ولد المسيح على أرضها ومشى فيها منذ أكثر من ألفي عام وكانت رسالات أغلب الأنبياء فيها؟

وللأسف ينسى الكثيرون التواجد القوي والدفاع المستمر لعددٍ من الشخصيات اليهودية البارزة ذات الحضور الدولي والمصداقية عن حقوق الفلسطينيين كالمحامية الفرنسية التونسية جيزيل حليمي وهي من حلق الوادي،وكانت أول امرأة تمتهن المحاماة في تونس وكان لها أثرٌ كبير حيث أنها دعمت قضايا حقوق الإنسان والتحرر الوطني والمرأة ونضال تحرير الجزائر ودافعت عن مناضلي جبهة تحرير الجزائر مثل المناضلة الجزائرية (جميلة بوباشا) فجازفت بمستقبلها المهني في فرنسا دفاعاً عن مبادئها الإنسانية، ودافعت عن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وترافعت عن المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي،ومن أقوالها : تتمحور حياتي حول معركتي ضد الظلم،ذاك الداء المهلك والبلاء الفتاك..وقالت عن موقفها تجاه فلسطين: ‏"إن الشعب الفلسطيني ذو اليدين العارية يتم ذبحه،هناك جيش يحتجزه كرهينة،لماذا؟ ما هي القضية التي يدافع عنها هذا الشعب ولما تتم معارضته؟ أقول إن هذه القضية عادلة وسيتم الإعتراف بها على هذا النحو على مر التاريخ، ولم يستطع أحد اتهامها بمعاداة السامية لأنها يهودية..

وهذا ما حدث أيضاً مع الناشطة الأمريكية الراحلة راشيل كوري والتي دهستها جرافة إسرائيلية بينما كانت تتصدى لها لمحاولة منعها من هدم منازل الفلسطينيين، وكانت تقول إذا كان الظلم منا فأنا لست منا،ولم تستثنها السلطات الإسرائيلية لأنها يهودية،لأن استخدام الديانة اليهودية هو مجرد واجهة لمشروع استعماري كما ذكرنا،وكما يستخدم المتطرفون في كل الأديان تفسيرهم للنصوص الدينية لتبرير أفعالهم ولكن الإعلام لا يتعامل بحيادية مع الجميع.

وهناك العديد من الشخصيات اليهودية التي كانت ولا زالت داعمة للقضية الفلسطينية مثل نعوم تشومسكي وهو كاتبٌ ملحد من أصلٍ يهودي اشتهر كأستاذ لعلم اللسانيات،وكمؤرخ،فيلسوف،وناقد وقال: المفارقة الأخيرة هي أن حكاية فلسطين منذ البداية وحتى اليوم هي قصة بسيطة عن الإستعمار والسلب،ومع ذلك يتعامل معها العالم على أنها قصة متعددة الأوجه ومعقدة يصعب فهمها بل ويصعب حلها.

 كما نذكر أيضاً الكاتب الأمريكي اليهودي نورمان فلينكشتاين وأستاذ العلوم السياسية وهو أيضاً ناشطٌ سياسي وداعمٌ للقضية الفلسطينية، ومواقفهم جميعاً معروفة وواضحة مما يدحض أي ادعاء بمعاداة الديانة اليهودية لأن اليهود عاشوا في مختلف الدول العربية بكرامةٍ واحترام وتقلدوا مناصب رفيعة في ظل حكم إسلامي للدول العربية،وكانت لهذه الفترة التاريخية سلبياتها كما كان لها ايجابياتها،والتي كانت أيضاً تحتضن أدياناً وطوائف أخرى مثل الدين المسيحي الذي ينتمي أبنائه إلى أوطانهم في مختلف الدول العربية وهم مواطنون لا يختلفون عن المسلمين في شيء،وحتى عندما حدوث بعض المشاكل التي لا ينكرها أحد من حين لآخر يتم احتوائها لوجود وعي شعبي أكبر من الأصوات المتطرفة الموجودة حتى في الدول الغربية والأوروبية،ولأنهم في بلادهم ويعيشون على أرضهم وأرض أجدادهم منذ آلاف السنين ولا يحق لأحد التعامل معهم على غير هذا الأساس،أو أن يعتقد أنه كمواطن أفضل منه،ولأن مختلف الأصوات والآراء ووجهات النظر يجب أن تكون موجودة ويتم الاستماع اليها بإصغاء واحترام،لليهود كل الحق في العيش في فلسطين إذا كانوا فلسطينيين، أما بقية اليهود فهم مثل بقية الفئات من مختلف أنحاء العالم،مكانها هو وطنها الأم وبإمكانها زيارة فلسطين متى شاءت على أن تعود إلى وطنها لاحقاً،ولم يقل من قبل أي مسيحيٍ أو مسلم في العالم أن فلسطين تعاديه لأنها ترفض إعطائه أرضها،فلكل إنسانٍ وطنه،وفلسطين أرضٌ لكل الفلسطينيين المنتمين لأرضها،وبكل أسف فإن اليهود واليهودية هم من أكبر الضحايا الذين يعانون من الجرائم التي تقترفها "اسرائيل" بإسمهم،ودون وجود لجهاتٍ حقيقية توصل رسالتهم التي يتجاهلها الإعلام المنحاز غالبًا إلى القوة والمال.

خالد جهاد..







Share To: